للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت: جعلت فداك، ما أفهم هذا البيت، ولا أحسبه مما يتغنى به، قالت: أنا أول من تغنى به، قلت: فإنما هو بيت مفرد لا صاحب له، قالت: معه بيت آخر، ليس هذا وقته، وهو آخر ما أتغنى به، قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب، وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب، فقمت وصليت، وما أدري كم صليت عجلة وشوق فلما سلمت قلت: أتأذنين لي - جعلت فداك - في الدنو منك، قالت: تجرد، وأشارت إلى ثيابها، كأنها تريد أن تتجرد، فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها، فتجردت، وقمت بين يديها، فقالت: امضي إلى آخر البيت وأقبل حتى أراك مقبلاً ومدبراً، وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى آخر البيت، فخطرت عليه، وإذا خرق إلى السوق تحته، فإذا أنا فيه، قد وقعت في السوق قائماً متجرداً، وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما، وكمنا لي ناحية، فلما هبطت عليهما، نهضا إلي، فقطعا نعالهما على قفاي، واستعانا بأهل السوق، فضربت - والله - يا أبا محمد، حتى نسيت اسمي، فبينما أن أضرب بنعال مخصوفة، وأيد شديدة، إذا صوت من فوق البيت يغني:

ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاذرنا المجرد في الصحارى

فقلت في نفسي: هذا - والله - وقت هذا البيت، فنجوت إلى رحلي، وما في عظم صحيح، فلما انقضى حجنا، وانصرفنا، جعلت طريقي على ذلك الموضع، فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب، قلت: لعنها الله، ولعن الذي هي منه.

وحكى أبو سويد عن أبي العتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينما أنا ذات يوم بباب الكرخ، وأنا سائر، وقد استولى الفكر على قلبي في أبيات شعر نطق بها اللسان، فقلت:

دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني له انقباض

فإذا بجارية رائعة الجمال، فائقة الكمال، حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف، لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:

كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة ... في كل جارحة منها لها قمر

وكانت تسمع قولي، فقالت:

هذا قليل لمن دعته ... بلحظها الأعين المراض

فأجبتها، فقلت:

فهل لمولاي عطف قلب ... أو للذي في الحشا انقراض

فأجابتني فقالت:

إن كنت تبغي الوداد منا ... فالود مني ديننا قراض

قال دعبل، فما أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق، فحار - والله - البصر - وذهل اللب، وجل الخطب، وتجلجل اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء أدنيت لها النار، ثم ثاب إلي عقلي، وراجعني علمي، وذكرت قول بشار:

لا يمنعنك من محذرة ... قول تغلظه، وإن جرحا

عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا

هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه، واليأس منه، فكيف لمن وعد قبل المسألة وبذل قبل الطلب، فقلت مسمعاً لها:

أترى زمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق؟

فقالت مجيبة لي في أسرع من نفسي:

ما للزمان يقال فيه، وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق

<<  <   >  >>