الْوَجْه الثَّانِي أَن يتَذَكَّر الانسان مَا يُعلمهُ من نَفسه من شدَّة الْجَهْل وَقلة الْعلم وتردده فِي الامور وحيرته فِي أَشْيَاء سهلة ورجوعه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مرَارًا ووجدانه للشَّيْء بعد الطّلب الشَّديد الطَّوِيل واليأس من وجدانه فان علم الانسان بأحوال نَفسه ضَرُورِيّ وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {بل الْإِنْسَان على نَفسه بَصِيرَة وَلَو ألْقى معاذيره} وَقد وَصفه ربه الْعَلِيم الْخَبِير بِأَنَّهُ ظلوم جهول فِي كِتَابه الْحق وَيعلم من التجربة المستمرة وَمن قصَّة مُوسَى وَالْخضر التَّفَاوُت الْعَظِيم بَين الْخلق فِي البلادة والذكاء وَمَعْرِفَة الدقائق وخفيات الحكم ومحكمات الآراء وحدس عواقب الامور فَكيف التَّفَاوُت بَين الْخلق وخالقهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَو وهب الله عز وَجل لبَعض خلقه نصف علمه سُبْحَانَهُ لجَاز أَن يكون ذَلِك التَّأْوِيل فِي النّصْف الآخر كَيفَ وَقد صَحَّ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن الْخضر قَالَ لمُوسَى مَا علمي وعلمك وَعلم جَمِيع الْخَلَائق فِي علم الله إِلَّا مثل مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر
وَالْفرق بَين هَذَا الْوَجْه وَالَّذِي قبله إِن هَذَا رَاجع إِلَى كَسره لعجبه بِنَفسِهِ فان الِاعْتِرَاض على الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا ينشأ من ذَلِك وَالْوَجْه الأول مَبْنِيّ على تَسْلِيم صِحَة إِنْكَاره فِي المتشابهات لَكِن بِالنِّسْبَةِ إِلَى عقولنا ومعارفنا وَالْغَرَض بِهِ اقناع الْخصم كَيْلا يعْتَقد فِينَا العناد بانكار المدارك الْعَقْلِيَّة فانا لَا ننكرها لَكِن ندعي أَنه قد ينْكَشف خلاف السَّابِق إِلَى الْوَهم الْعقلِيّ والحسي كَمَا أَن الانسان أول مَا يرى النُّجُوم يعْتَقد أَنَّهَا سَاكِنة حَتَّى تنكشف لَهُ حركتها بالبرهان لَا بالبصر وَقد يَرَاهَا متحركة حَرَكَة سريعة مَعَ حَرَكَة السَّحَاب الرَّقِيق وينكشف لَهُ بالبرهان عدم ذَلِك
الوجد الثَّالِث وَهُوَ القالع لآثار هَذِه الوساوس أَن يعلم الانسان أَنه مَا زَالَ الِاخْتِلَاف بَين أهل الفطن والعلوم من الْمُسلمين فِيمَا بَينهم والفلاسفة فِيمَا بَينهم وَسَائِر الْخَلَائق حَتَّى حكى الله تَعَالَى الِاخْتِلَاف الْيَسِير الَّذِي لَا يضر فِيمَا عَن الْمَلَائِكَة وَبَعض الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَقَالَ تَعَالَى {مَا كَانَ لي من علم بالملإ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون}
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute