لَا يجوز أَن يعلم أصل الْجِنّ مَا هُوَ باضطرار للِاخْتِلَاف فِي إثباتهم فقد بَان أَن ذَلِك لَا يعلم باضطرار كَمَا لَا يعلم باكتساب من جِهَة الْعقل فان قيل كَيفَ تَجْعَلُونَ فِي قَول إِبْلِيس {خلقتني من نَار} دلَالَة مَعَ أَنه يجوز أَن يكذب فِي ذَلِك أَو يَظُنّهُ وَلَا يكون لَهُ بِهِ علم قيل لَهُ مَوضِع الدّلَالَة من ذَلِك قَول الله تَعَالَى ولولم يكن الْأَمر على مَا قَالَ لما ترك الله تَكْذِيبه لِأَن ترك تَكْذِيب الْكَاذِب مِمَّن لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَوْف وَالْجهل قَبِيح اهـ
قَالَ وَبِهَذَا بِعَيْنِه احْتج شُيُوخنَا على الْمخبر بالاستطاعة بقول الْجِنّ لِسُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام {أَنا آتِيك بِهِ قبل أَن تقوم من مقامك وَإِنِّي عَلَيْهِ لقوي أَمِين} فَزعم أَن قوى على الْإِتْيَان بِعَرْشِهَا قبل أَن يفعل الْإِتْيَان فَلم يَجْعَل قَول الجنى دَلِيلا على ذَلِك وَإِنَّمَا جعلُوا سكُوت سُلَيْمَان على تَكْذِيبه وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ حجَّة لِأَنَّهُ لَو لم يكن قَادِرًا على الْإِتْيَان بِهِ لم يدع الْإِنْكَار عَلَيْهِ وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا بَطل الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور بِأَن صِحَة مَا تقدم ذكره على أَنا لَا نعلم خلافًا بَين الْمُسلمين فِي ذَلِك وَلَا يشك أَن هَذَا كَانَ من دين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قيل فِي النَّار من اليبس مَا لَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا والحياة فِي وجودهَا تحْتَاج إِلَى رُطُوبَة كَمَا تحْتَاج إِلَى بنية مَخْصُوصَة وَإِلَى الرّوح الَّتِي هِيَ النَّفس المتردد عِنْد شيخكم أبي هَاشم إِن كَانَ شيخكم أَبُو عَليّ يجوز وجود الْحَيَاة مَعَ عدم النَّفس وَيَقُول إِن أهل النَّار لَا يتنفسون وَإِذا صَحَّ هَذَا فالرطوبة لَا بُد مِنْهَا فِي وجود الْحَيَاة وَكَذَلِكَ البنية فَكيف يَصح لكم مَا قُلْتُمْ فَهَلا لديكم هَذَا على أَن الله تَعَالَى أَرَادَ بقوله {خلقناه من قبل من نَار السمُوم} غير مَا ذهبتم اليه وَإِن الْآيَة لَيست على ظَاهرهَا
قيل لَهُ إِن الامر وَإِن كَانَ على مَا ذكرت فَإِن الله تَعَالَى قَادر على أَن يفعل رُطُوبَة فِي تِلْكَ النَّار بِمِقْدَار مَا يَصح وجود الْحَيَاة فِيهَا لِأَن مجاورة المَاء وَالنَّار لَا تستحيل يدلك على هَذَا المَاء المسخن فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسخن من