يعد ابن الأنباري من متأخري النحاة، وهو أحد أعلام المدرسة البغدادية -كما هو معلوم- فطبعيّ أن يكون هذا الرجل -بتأخره، وذكائه، وإخلاصه في طلب العلم، وباستقامته التي عرف بها طول حياته- أن يتحرر من الأهواء، وأن ينهج النهج الذي يتفق مع قناعاته، واستنتاجاته التي توصل إليها بعد طول مدارسة ومعاناة. وقد رأينا ابن الأنباري في كتابه المشهور:
مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ذا عين بصيرة، وقوة في عرض حجج كل من البصريين والكوفيين، وغيرهم، ومن ثم تفنيد الحجج التي يراها بعيدة عن الصواب، وتأييد الحجج التي يقتنع بها، مبينًا في كثير من الأحيان سبب تبنيه لرأي دون رأي، ولحجة دون أخرى، بطريقة علمية موضوعية مقنعة. وهو إذ وافق البصريين في أكثر مسائل الخلاف، لا لانحيازه إليهم -كما يرى بعض الدارسين١؛ بل لأنه رأى آراءهم أكثر سدادًا، وحججهم أكثر إقناعًا؛ وعلى كل فإليه يعود الفضل في إظهار أسس كل مذهب من المذهبين؛ ولا يضيره بعد ذلك اقتناعه بآراء أحد الفريقين، ولا سيما إذا وجده الأنسب، والأقرب إلى الصواب وفق اعتقاده.
وقد سار أبو البركات في كتاب أسرار العربية على النهج نفسه من حيث العرض، والتفنيد، والتأييد، وإن كان في أكثر الأبواب يؤيد آراء البصريين؛ لكونها أكثر إقناعًا، وأقل تكلُّفًا.
وأما موضوع كتاب أسرار العربية بشكل عام، فهو العلل النحوية والإعرابية، وأسباب تسمية مسميات كثير من المصطلحات النحوية، وأسباب تسمية الحركات، وصيغ الجموع، وغير ذلك. وكان ابن الأنباريّ في منتهى