إذا كانت تلك السرايا بمثابة تدريب عملي حي نابض، بل يمكن اعتبارها بلا مبالغة دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد.
إن هذا الكم الوافر من السرايا والبعوث، والطرق التي كانت تتمُّ بها تنقلاتها المسيرية نحو أهدافها، يدل على أن الجندي المسلم في ذلك الوقت كان يتمتع بلياقة بدنية هائلة مع خفة حركة تشحذها روح إيمانية لتضيف إليها العزم والتصميم اللذين يمثلان الروح المعنوية اللازمة، والتي كانت أحد الأسباب الرئيسية للانتصارات المتوالية التي كان يحققها جند الإسلام في كل معركة، ولا شكَّ أن تلك اللياقة القوية لم تأت من فراغ، أو أنها كانت محض صدفة، فالمتتبع للحياة اليومية التي كان يعيشها جند الإسلام الأوائل، يستطيع أن يعرف لماذا كانوا يتمتعون بتلك اللياقة العالية على الرغم من أنهم لم يكونوا جنودًا نظاميين يخضعون بتدريبات عنيفة، وينتظمون في معسكرات إلزامية في مؤسسات عسكرية نظامية كما هو الحال في عالمنا المعاصر.
ولكن بالنظر في حياتهم وتحركاتهم خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية يرى أنها كانت عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكرًا مع صلاة الفجر تؤدى جماعة مع قائدهم الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان دائمًا ما يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة وفي وقتها موضحًا لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس، وإلاَّ أصبح خبيث النفس كسلان"١.
ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ما صلَّوا الصلاة الآخرة (صلاة العشاء) ناموا تطبيقًا لأمر القائد الأعلى،
١ أخرجه مسلم، انظر الألباني، مختصر صحيح مسلم (١٠٦) .