للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم تكن العرب تَعُدُّ المال في الجاهلية إلا الخيل والإبل، وكان للخيل عندها مزية على الإبل، فلم تكن تَعْدِل بها غيرها، ولا ترى القوة والعزَّ والمنعة بسواها، لأن بها كانوا يدافعوا عن غيرها مما يملكون، ويمنعون حريمهم، ويحمون من وراء حوزتهم وبيضتهم، ويغاورون أعداءهم ويطلبون ثأرهم، وينالون بها المغانم، فكان حبهم لها، وعظم موقعها عندهم، على حسب حاجتهم إليها، وغنائهم عنها، وما يتعرفون من بركتها ويُمْنها؛ إلى أَن بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأكرم أمته بما هداهم له من دينه، وأمتنَّ عليهم به منه، فاختار لنبيه عليه الصلاة والسلام إعداد الخيل وارتباطها لجهاد عدوه؛ فقال سبحانه:) وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباِط الخيل، تُرْهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم (.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:) وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (قال: الجن؛ ولن يخَيَّلَ الشيطان إلى إنسان في داره فرس عتيق.

فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل وارتبطها وأحبها، وحض المسلمين على ارتباطها، وأَعْلَمَهُمْ ما لهم في ذلك من المثوبة والأجر، فسارَعوا إلى ذلك وازدادوا حرصاً عليها وفي إمساكها، رغبة في الأجر والتماس البركة والخير في العاجل والآجل، في اقتنائها وتثميرها واستبطانها، وتنافسوا فيها، وغَالوْا، لما جعل الله فيها من أنواع البركات وجماع الخيرات.

قيل: ومن فضائل الخيل أنها أَصبر البهائم وأشدها شدة، وأخف الدواب كلها مئوية في العلف والمشرب عند ضيق الأمر في ذلك، إذ كان يكفيها في السرايا والمفاوز والأسفار القليل منه، ثم قسنا عليها في شدتها: فوجدنا أشد البهائم وأقواها على الأحمال الثقال الإبل، فأصَبْنا البعير البازل الشديد أكثر ما يحمل ألف رطل، فإذا حَمَل هذا المقدار لم ينهض إلا بعد الجهد والحيلة، ورأيناه لا يجري بحمله؛ وكذلك سائر البهائم التي توصف بالشدة لا تجري بأحمالها. ووجدنا ما يوصف من الوحش بشدة الْعَدْو لو حَمَل ثقيلاً لم يؤد عُشْر جريه؛ فوقفنا على أن الفرس يحمل من فارسه وآلته وسلاحه وتجِفافه وزاده وعلفه، وعَلَمٍ إن كان في يد صاحبه في يوم ريح، زُهاء ألف رطل، ويجري به يوماً جَريداً لا يكاد يمل ولا يخَوْىَ بجوع ولا عطش؛ فعلمنا أنه لا شيء من البهائم أشد ولا أصبر ولا أجود ولا أفضل ولا أكرم ولا أقوى من الخيل.

وأنزل الله عز وجل في ارتباط والاتفاق عليها آيتين من القران العظيم، قوله تعالى:) مَنْ ذا الذي يُقْرضُ اللهَ قرضناً حسناً فيضاعفَه له أضعافاً كثيرة وقوله سبحانه:) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وَعَلاَنِيَةً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (. قال أبو أمامة، وأبو الدرداء، ومكحول، والأوزاعي، ورباح ابن يزيد: هم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله.

وعن ابن عباس:) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية (: قال: نزلت في عَلَف الخيل.

وروى أن أبا ذَرٍّ أشار إلى بعض خيل كانت في الجَّبانة وقال: أصحاب هؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية وكان أبو هُرَيْرَةَ إذا مر بفرس سمين تلا هذه الآية، وإذا مر بفرس أعجَف سكت.

[الباب الثالث]

[حفظ الخيل]

[وصونها والوصية بها]

أعلم أن الأمم الماضية لم تزل تُكْثر من الاعتناء بالخيل والتشريف لها، والثقة بها، والتعويل عليها في حروبها، والافتخار بِرَبْطِها؛ وإن كانت العرب زادت في فضلها ومزيتها ما فاتوا به الأمم، فلم تكن في الجاهلية ولا في الإسلام تصون شيئاً من أموالها كصيانتها ولا تكرِمُه ككرامتها، لما كان لهم فيها من التباهي والتفاخر، والتنافس والتكاثر، والقوة والمنعة، والعز والرفعة.

<<  <   >  >>