أيها العبد: حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك، وتدبر قبل الفعل ما يملى في صحيفتك، وانظر: هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك، لقد سعد من حاسبها، وفاز والله من حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها، وكلما ونت عاتبها، وكلما تواقفت جذبها، وكلما نظرت في آمال هواها غلبها.
قال عليه الصلاة والسلام:«الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر:{يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} .
وقال الحسن البصري رحمه الله: أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله عز وجل في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإ كان الدين لله هموا بالله وإن
[كان] عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر فقالوا:{يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها} .
وقال أبو بكر البخاري: من نفر عن الناس قل أصدقاؤه، ومن نفر عن ذنوبه طال بكاؤه، ومن نفر عن مطمعه طال جوعه وعناؤه، ونقل توبة بن المعلم أنه نظر يوماً وكان محاسباً لنفسه، فإذا هو ابن ستين إلا عاماً، فحسبها أياماً، فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقي المليك بإحدى وعشرون ألف ذنب وخمسمائه ذنب، فكيف ولي في كل يوم عشرون ألف ذنب؟ ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا هاتفاً يقول: يا لها من ركضة إلى الفردوس الأعلى.
إخواني: المؤمن مع نفسه لا يتوانى عن مجاهدتها، وإنما يسعى في سعادتها، فاحترز عليها واغتنم لها منها، فإنها إن علمت منك الجد جدت، وإن رأتك مائلاً عنها صدت، وإن حثها الجد بلحاق الصالحين سعت وقفت، وإن تواني في حقها قليلاً وقفت، وإن طالبها بالجد لم تلبث أن صفت وأنصفت، وإن مال عن العزم أماتها، وإن التفت عربدت، من صبر على حر المجلس خرج إلى روح السعة، من رأى التناهي في المبادي سلم، ومن رأى التناهي هلك، لأن مشاهدة التناهي تقصير أمله، ومشاهدة المبادي في التناهي تسوف عمله، وفي الجملة: من راقب العواقب سلم.
يا هذا: هلال الهدى لا يظهر في غيم الشبع، ولكن يبدو في صحو الجوع وترك الطمع، واحذر أن تميل إلى حب الدنيا فتقع، ولا تكن من الذي قال: سمعت وما سمع، ولا ممن سوف يومه بغده فمات ولا رجع، كلا ليندمن على تفريطه وما صنع، وليسألن عن تقصيره في عمله وما ضيع، فيا لها من حسرة وندامة وغصة تجرع، عند قراءة كتابه وما رأى فيه وما جمع، فبكى بكاء شديداً فما نفع، وبقي محزوناً لما رأى من نور المؤمن يسعى بين يديه وقد سمع، فلا ينفعه الحزن ولا الزفير ولا البكاء ولا الجزع.