للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٥٩ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَافْلَائِي قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، أَمْلَاهَا عَلَيَّ إِمْلَاءً، وَسَأَلْتُهُ فِيمَا جَحَدَتِ الْجَهْمِيَّةُ ⦗٦٤⦘ أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ فَهِمْتُ مَا سَأَلْتَ فِيمَا تَتَابَعَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ حَالَفَهَا فِي صِفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الَّذِي فَاتَتْ عَظَمَتُهُ الْوَصْفَ، وَالتَّقْدِيرَ، وَكَلَّتِ الْأَلْسُنُ عَنْ تَفْسِيرِ صِفَتِهِ، وَانْحَسَرَتِ الْعُقُولُ دُونَ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، وَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ، فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغًا فَرَجَعَتْ خَاسِئَةً وَهِيَ حَسِيرٌ، وَإِنَّمَا أُمِرْنَا بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَ بِالتَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: كَيْفَ كَانَ؟، لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً ثُمَّ كَانَ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَحُولُ، وَلَا يَزُولُ، وَلَمْ يَزَلْ، وَلَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ، وَكَيْفَ يُعْرَفُ قَدْرُ مَنْ لَمْ يُبْدَأْ وَمَنْ لَا يَبْلَى، وَلَا يَمُوتُ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ، أَوْ مُنْتَهًى، يَعْرِفُهُ عَارِفٌ، أَوْ يَحِدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ؟، وَذَلِكَ مِنْ جَلَالِهِ، فُصِّلَ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، لَا حَقَّ أَحَقُّ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ أَبْيَنُ مِنْهُ. الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ خَلْقِهِ لَا تَكَادُ تَرَاهُ صِغَرًا يَجُولُ وَيَزُولُ، وَلَا يُرَى لَهُ سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ لِمَا يَتَقَلَّبُ بِهِ وَيَحْتَالُ مِنْ عَقْلِهِ، أَعْضَلُ بِكَ وَأَخْفَى عَلَيْكَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: ١٤]، ⦗٦٥⦘ وَخَالِقُهُمْ وَسَيِّدُ السَّادَّةِ وَرَبُّهُمْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، اعْرِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ غِنَاكَ عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفِ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِكَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ قَدْرَ مَا وَصَفَ مِنْهَا، إِذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وَصَفَ فَمَا كَلَّفَكَ عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، هَلْ تَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ طَاعَتِهِ أَوْ تَتَزَحْزَحُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مَعْصِيَتِهِ؟ فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا قَدِ {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام: ٧١]، فَصَارَ أَحَدَهَا، وَمِنْهَا يَسْتَدِلُّ مَنْ زَعَمَ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ: لَا بُدَّ إِنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَذَا، فَعُمِّيَ عَنِ الْبَيِّنِ بِالْخَفِيِّ، بِجَحْدِ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ، فَصَمَتَ الرَّبُّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ يُمْلِي لَهُ الشَّيْطَانُ حَتَّى جَحَدَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣]، فَقَالَ: لَا يَرَاهُ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَجَحَدَ وَاللَّهِ أَفْضَلَ كَرَامَةِ اللَّهِ الَّتِي أَكْرَمَ بِهَا أَوْلِيَاءَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَنُضْرَتِهِ إِيَّاهُمْ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: ٥٥]، وَقَدْ قَضَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ، فَهُمْ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ يَنْضَرُونَ ⦗٦٦⦘ وَإِنَّمَا كَانَ يَهْلِكُ مَنْ رَآهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَبْقَى سِوَاهُ، فَلَمَّا حَتَّمَ الْبَقَاءَ، وَنَفَى الْمَوْتَ وَالْفَنَاءَ، أَكْرَمَ أَوْلِيَاءَهُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَاللِّقَاءِ، فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَيَجْعَلَنَّ اللَّهُ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُخْلِصِينَ ثَوَابًا فَتَنْضَرُ بِهَا وُجُوهُهُمْ دُونَ الْمُجْرِمِينَ، وَتَفْلُجُ بِهَا حُجَّتُهُمْ عَلَى الْجَاحِدِينَ، فَهُمْ وَشِيعَتُهُ وَهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ مَحْجُوبُونَ، لَا يَرَوْنَهُ كَمَا زَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُرَى، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، كَيْفَ لَمْ يَعْتَبِرْ قَائِلُهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: ١٥]؟ أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُقْصِيهِمْ وَيُعَذِّبُهُمْ بِأَمْرٍ يَزْعُمُ الْفَاسِقُ أَنَّهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ فِيهِ سَوَاءٌ؟ وَإِنَّمَا جَحَدَ رُؤْيَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ الضَّالَّةِ الْمُضِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ، وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَهَلْ ⦗٦٧⦘ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» فَقَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَئِذٍ كَذَلِكَ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَمْتَلِئُ النَّارُ حَتَّى يَضَعَ الرَّحْمَنُ قَدَمَهُ فِيهَا فَتَقُولُ: قَطٍ قَطٍ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ "، وَقَالَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: «لَقَدْ ضَحِكَ اللَّهُ مِمَّا فَعَلْتَ بِضَيْفِكَ الْبَارِحَةَ» وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: «إِنَّ اللَّهَ لَيَضْحَكُ مِنْ أَزْلِكُمْ، وَقُنُوطِكُمْ، وَسُرْعَةِ إِجَابَتِكُمْ»، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ: إِنَّ رَبَّنَا لَيَضْحَكُ؟ قَالَ «نَعَمْ» قَالَ: لَا يَعْدِمُنَا مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا " فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِمَّا لَمْ نُحْصِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١]، ⦗٦٨⦘ {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: ٣٩]، وَقَالَ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: ٧٥]، وَقَالَ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فَوَاللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عَظِيمٍ مِنْ وَصْفِ نَفْسِهِ، وَمَا تُحِيطُ قَبْضَتُهُ إِلَّا صَغَّرَ نَظِيرَهَا مِنْهُمْ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَلْقَى فِي رُوعِهِمْ، وَخُلِقَ عَلَى مَعْرِفَةِ قُلُوبِهِمْ، فَمَا وَصَفَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ فَسَمَّاهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ سَمَّيْنَاهُ كَمَا سَمَّاهُ، وَلَمْ نَتَكَلَّفْ مِنْهُ صِفَةَ مَا سِوَاهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا، لَا نَجْحَدُ مَا وَصَفَ، وَلَا نَتَكَلَّفُ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ، اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الدِّينِ إِنْ تَنْتَهِ حَيْثُ انْتَهَى بِكَ فَلَا تُجَاوِزْ مَا قَدْ حُدَّ لَكَ، فَإِنَّ مِنْ قِوَامِ الدِّينِ مَعْرِفَةُ الْمَعْرُوفِ، وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ، فَمَا بُسِطَتْ عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةُ، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ الْأَفْئِدَةُ، وَذُكِرَ أَصْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَوَارَثَتْ عَلْمَهُ الْأُمَّةُ، فَلَا تَخَافَنَّ فِي ذِكْرِهِ، وَصِفَتِهِ مِنْ رَبِّكَ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَبَثًا، وَلَا تَتَكَلَّفَنَّ لِمَا وَصَفَ لَكَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا، وَمَا أَنْكَرَتْهُ نَفْسُكَ ⦗٦٩⦘ وَلَمْ تَجِدْ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِ رَبِّكَ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ نَبِيِّكَ، مِنْ صِفَةِ رَبِّكَ فَلَا تَتَكَلَّفَنَّ عِلْمَهُ بِعَقْلِكَ، وَلَا تَصِفْهُ بِلِسَانِكَ، وَاصْمُتْ عَنْهُ كَمَا صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ مِنْ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّ تَكَلُّفَكَ مَعْرِفَةَ مَا لَمْ يَصِفْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلُ إِنْكَارِكَ مَا وَصَفَ مِنْهَا، فَكَمَا أَعْظَمْتَ مَا جَحَدَ الْجَاحِدُونَ مِمَّا وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ أَعْظِمْ تَكَلُّفَ مَا وَصَفَ الْوَاصِفُونَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ مِنْهَا، فَقَدْ وَاللَّهِ عَزَّ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْمَعْرُوفَ وَبِمَعْرِفَتِهِمْ يُعْرَفُ، وَيُنْكِرُونَ الْمُنْكَرَ وَبِإِنْكَارِهِمْ يُنْكَرُ، يَسْمَعُونَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَمَا يَبْلُغُهُمْ مِثْلُهُ عَنْ نَبِيِّهِ، فَمَا مَرِضَ مَنْ ذَكَرَ هَذَا وَتَسْمِيَتُهُ مِنَ الرَّبِّ قَلْبٌ مُسْلِمٌ، وَلَا تَكَلَّفَ صِفَةَ قَدْرِهِ وَلَا تَسْمِيَةَ غَيْرِهِ مِنَ الرَّبِّ مُؤْمِنٌ. وَمَا ذُكِرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهُ مِنْ صِفَةِ رَبِّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا سَمَّى وَوَصَفَ الرَّبُّ تَعَالَى مِنْ نَفْسِهِ، مِنْ أَجْلِ مَا وَصَفْنَا، كَالْجَاحِدِ الْمُنْكِرِ لِمَا وَصَفْنَا مِنْهَا، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ الْوَاقِفُونَ حَيْثُ انْتَهَى عِلْمُهُمُ، الْوَاصِفُونَ لِرَبِّهِمْ بِمَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، التَّارِكُونَ لِمَا تَرَكَ مِنْ ذِكْرِهَا، لَا يُنْكِرُونَ صِفَةَ مَا سَمَّى مِنْهُ جَحْدًا، وَلَا يَتَكَلَّفُونَ وَصْفَهُ بِمَا لَمْ يُسَمِّ تَعَمُّقًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَرَكَ مَا تَرَكَ، وَتَسْمِيَةُ مَا ⦗٧٠⦘ سَمَّى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥]، وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ. قَالَ الشَّيْخُ: فَقَدْ ذَكَرْتُ لَكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ مِنْ تَثْبِيتِ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَشَرَحْتُ ذَلِكَ وَبَيَّنْتُهُ مُلَخِّصًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُغَاتِ الْعَرَبِ مَا فِي بَعْضِهِ كِفَايَةٌ، وَغِنًى وَهِدَايَةٌ، وَشِفَاءٌ لِمَنْ وَهَبَ اللَّهُ بَصِيرَةً، وَأَرَادَ بِهِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمُ الْخَيْرَ وَالسَّلَامَةَ، فَأَمَّا الْجَهْمِيُّ الْمَلْعُونُ الَّذِي قَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ الرَّيْنُ، وَمُنِعَ الْعِصْمَةَ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْفِيقِ، فَإِنَّهُ يَجْحَدُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُنْكِرُهُ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ، وَيَتَّخِذُهُ هُزُوًا، فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: ٧] فَالْجَهْمِيُّ يُنْكِرُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ نَزَعَ بِآيَاتٍ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِ، وَتَأْسِيسِ اعْتِقَادِهِ تَكْذِيبُ الْقُرْآنِ وَجَحْدُهُ، فَيُمَوِّهُ بِاحْتِجَاجِهِ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، فَيَقُولُ حُجَّتِي فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: ١٠٣]، فَظَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُمْ أَنَّهُمْ نَزَّهُوهُ، وَأَجَلُّوهُ، وَوَحَّدُوهُ، بِإِنْكَارِهِمْ رُؤْيَتَهُ، وَاحْتِجَاجِهِمْ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَيُقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونَا، النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَعَانِي كَلَامِهِ، وَمُرَادِهِ فِي وَحْيِهِ وَتَنْزِيلِهِ أَمْ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ؟ فَإِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ ⦗٧١⦘ الْقُرْآنُ وَجَاءَ بِالْهُدَى مِنْ رَبِّهِ وَالْبُرْهَانِ يَقُولُ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَكَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ»، «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ»، أَفَيَظُنُّ الْجَهْمِيُّ الْمُلْحِدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْجَهْمِيُّ؟ أَمْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ قَرَأَهَا؟ أَمْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَ الْقُرْآنَ، وَتَلَقَّاهُ بِالْخِلَافِ عَلَيْهِ وَالرَّدِّ كَمَا تَفْعَلُ الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ؟ فَإِنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ إِذَا وَضَحَ عِنْدَهُمْ صِحَّةُ الرِّوَايَاتِ، وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا التَّوَاطُؤُ وَالِاسْتِحَالَةُ، قَالُوا: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُشَبِّهًا، وَالْمُشَبِّهُ عِنْدَهُمْ كَافِرٌ مُلْحِدٌ، فَأَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي نَبِيِّهِمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُهُمْ فِي رَبِّهِمْ، وَإِلْحَادُهُمْ فِي أَسْمَائِهِ وَجَحْدُهُمْ لِصفَاتِهِ، وَإِبْطَالُهُمْ رُبُوبِيَّتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ جَالَسْتَ الْمُعْتَزِلِيَّ عُمُرَهُ كُلَّهُ، مَا قَطَعَ مَجْلِسَهُ، وَلَا أَفْنَى لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ إِلَّا بِالْخُصُومَةِ وَالْجَدَلِ فِي اللَّهِ، وَفِي صِفَاتِهِ، وَقَدَرِهِ، وَفِي جَحْدِ الْعِلْمِ، وَفِي نَفْيِ الصِّفَاتِ، قَدْ وَلِهَتْهُ الْخُصُومَةُ، وَأْلَهَاهُ الْجَدَلُ عَنِ النَّظَرِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ⦗٧٢⦘ اللَّذَيْنِ تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهَمَا، وَفَرَضَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِهِمَا، وَالْعَمَلَ بِالَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ، فَأَمَّا حُجَّتُهُ، وَخُصُومَتُهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣]، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ وَاضِحٌ لَا يَخِيلُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، ذَلِكَ أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى الصَّغِيرِ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا يُدْرِكُهُ بَصَرُكَ، وَلَا يُحِيطُ نَظَرُكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُدْرِكُهُ بَصَرٌ وَإِنَّمَا الْإِدْرَاكُ أَنْ يُحِيطَ الْبَصَرُ بِالشَّيْءِ حَتَّى يَرَاهُ كُلَّهُ فَذَلِكَ الْإِدْرَاكُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَرَى الْقَمَرَ فَلَا تَرَى مِنْهُ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَخْفَى عَلَيْكَ مَا غَابَ مِنْ قَفَاهُ، وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ، وَكَذَلِكَ السَّمَاءُ وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ، وَكَذَلِكَ الْجَبَلُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُكَلِّمُكَ وَهُمْ مَعَكَ فَمَا يُدْرِكُهُ بَصَرُكَ، وَإِنَّمَا تَنْظُرُ مِنْهُ إِلَى مَا أَقْبَلَ عَلَيْكَ مِنْهُ، فَإِنَّمَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: ١٠٣]، لَا تُحِيطُ بِهِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَلَكِنَّ الْجَهْمِيَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّمَا يَنْزِعُ إِلَى الْمُتَشَابِهِ لِيَفْتِنَ الْجَاهِلَ. قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣]، إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الِانْتِظَارَ، فَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ بِهَذَا التَّأْوِيلِ جَمِيعَ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَمَا يَعْرِفُهُ الْفُصَحَاءُ مِنْ كَلَامِهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: ١٠٣]، ⦗٧٣⦘ وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: ٢٨]، فَلَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَكَلَامَهَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣] الِانْتِظَارَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ يَعْنِي أَنْتَظِرُكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: أَنْتَظِرُكَ، فَإِذَا دَخَلَ فِي الْكَلَامِ إِلَى، فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ غَيْرَ النَّظَرِ، يَقُولُ: أَنْظُرُ إِلَيْكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣]، وَلَوْ أَرَادَ الِانْتِظَارَ لَقَالَ: لِرَبِّهَا مُنْتَظَرَةٌ، وَلِرَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَذَلِكَ كُلُّهُ وَاضِحٌ بَيِّنٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِمَّنْ وَهَبَ اللَّهُ لَهُ عِلْمًا فِي كِتَابِهِ، وَبَصَرًا فِي دِينِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ الِانْتِظَارُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِالتَّخْفِيفِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّثْقِيلِ، فَأَمَّا مَا عُنِيَ بِهِ الِانْتِظَارُ، فَقَوْلُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف: ٦٦]، مَعْنَاهُ هَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ، وَشَبَهُهُ وَشَاهِدُهُ: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: ١٠٢]، فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّثْقِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِي الِانْتِظَارِ، كَقَوْلِهِ: يَنْتَظِرُونَ ثُمَّ قَالَ: {إِلَّا} [يونس: ١٠٢] فَثَقَّلَ، وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢١٠]، فَهَذَا انْتِظَارٌ مُثَقَّلٌ، وَقَالَ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: ٥٣]، يَعْنِي: يَنْتَظِرُونَ، فَثَقَّلَ، ⦗٧٤⦘ وَقَالَ مِمَّا هُوَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَخَفَّفَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق: ٦]، فَلَمَّا كَانَ مَعْنَاهُ النَّظَرَ، قَالَ: {إِلَى} [ق: ٦] فَخَفَّفَ، وَقَالَ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: ٩٩]، وَقَالَ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: ١٧]؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٣] مَعْنَاهُ: النَّظَرُ

٦٠ - سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ بْنَ الْأَنْبَارِيِّ النَّحْوِيَّ، يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢]، وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى مُنْتَظَرَةٍ مَا جَازَ أَنْ تَكُونَ نَاضِرَةً؛ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ عَلَى وَجْهِهِ الْحُزْنُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَقِّعٌ شَيْئًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ، وَالنَّاضِرَةَ مُسْفِرَةٌ، مُشْرِقَةٌ، ضَاحِكَةٌ، مُسْتَبْشِرَةٌ وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِالنَّاظِرَةِ: مُنْتَظَرَةً، كَانَ يَقُولُ: لِرَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت: ٥]، وَ {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ}، إِنَّمَا هُوَ كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ خَيْرًا، وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ شَرًّا، وَكَمَا قَالَ مُوسَى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: ٦٢]⦗٧٥⦘ وَهَذَا كُلُّهُ تَأْوِيلٌ تَأَوَّلَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلَا عِلْمٍ بِفَصِيحِ اللِّسَانِ، يُلْبِسُونَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ، وَيُمَوِّهُونَ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ مَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ، وَبَيْنَ مَا قُلْنَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: لَقِيتُ مِنْكَ، وَلَقِيتُ مِنْ فُلَانٍ خَيْرًا، فَإِذَا دَخَلَتْ (مِنْ) جَازَ أَنْ يَكُونَ كَمَا تَأَوَّلُوهُ، فَإِذَا أَرَدْتَ لِقَاءَ النَّظَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا (مِنْ)، فَإِذَا قُلْتَ لَقِيتُ فُلَانًا وَلَقِيتُكَ، كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى اللِّقَاءِ وَالنَّظَرِ لَا غَيْرَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: ٦٢]، أَدْخَلَ فِيهَا (مِنْ)، وَلَيْسَ فِيمَا احْتَجَجْنَا بِهِ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ (مِنْ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت: ٥]، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: ١١٠]، وَقَالَ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: ٤٤]

٦١ - وَسَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ، صَاحِبَ اللُّغَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ ثَعْلَبًا، يَقُولُ: أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: ٤٤] أَنَّ اللِّقَاءَ هَاهُنَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَايَنَةً، وَنَظَرًا بِالْأَبْصَارِ، ⦗٧٦⦘ وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّ النَّظَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطُولٍ وَعَرْضٍ وَلَوْنٍ وَجِسْمٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْبَرْتُمُونَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَيْسَ هُوَ شَيْئًا؟، فَإِذَا قَالُوا: بَلَى، قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّ النَّظَرَ يَكُونُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: إِنَّكُمْ شَبَّهْتُمْ رَبَّكُمْ بِالْقَمَرِ، فَقُلْتُمْ: «تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ»، فَتَفَهَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ جَهْلَهُمْ وَكَذِبَهُمْ، وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتُمْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِثْلُ الْقَمَرِ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ: إِنَّهُ يُرَى كَمَا يُرَى الْقَمَرُ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَى الْقَمَرِ كَمَا تَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَيْسَ الْقَمَرُ مِثْلَ الْأَرْضِ؟ وَلَكِنَّ النَّظَرَ مَثَلٌ فَتَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ الْعَظِيمِ كَمَا تَنْظُرُ إِلَى الشَّيْءِ الصَّغِيرِ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: أَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا فَأَهْدَيْتُ إِلَيْهِ ثَوْبًا، وَأَهْدَى إِلَيَّ شَاةً فَأَهْدَيْتُ إِلَيْهِ بَقَرَةً، فَيُقَالُ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ كَمَا أَهْدَى إِلَيَّ، فَلَيْسَ الثَّوْبُ مِثْلَ الْفَرَسِ، وَلَا الشَّاةُ مِثْلَ الْبَقَرَةِ، وَلَكِنَّ الْهَدِيَّةَ مِثْلُ الْهَدِيَّةِ فِي الِاسْمِ. ⦗٧٧⦘ وَاتِّفَاقُ الْمَعْنَى فِي الْفِعْلِ لَا فِي الشَّخْصَيْنِ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ مِثْلُ النَّظَرِ فِي الِاسْمِ، وَلَيْسَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ كُلُّهُ سَوَاءٌ

٦٢ - قَالَ رَجُلٌ لِنُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: كَيْفَ يَنْظُرُ الْخَلْقُ إِلَى اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الشَّمْسِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي الدُّنْيَا خَلْقَ فَنَاءٍ، وَخَلَقَ أَنْوَارَهُمْ خَلْقَ فَنَاءٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ خَلَقَهُمْ خَلْقَ بَقَاءٍ، وَخَلَقَ أَنْوَارَهُمْ خَلْقَ بَقَاءٍ، فَنَظَرُوا بِنُورِ الْبَقَاءِ إِلَى الْبَقَاءِ

<<  <  ج: ص:  >  >>