للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومن هَذَا البَابِ قَولُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥]، هَذِه الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ، يُحِبُّ لِعبِادِهِ ذَلكَ، يُحِبُّ لهم اليُسرَ ولا يُحِبُّ لهم العُسرَ، لكن قد يَفعَلُ هَذَا وقد لا يَفعَلُهُ سبحانه وتعالى.

ولِهذَا يَقعُ الكَثِيرُ من النَّاسِ في عُسرٍ ومَشَاقٍّ، قد يُقتَلُ بَعضُهُم وقد يَهْلكُ بِالغَرقِ وغَيرِ ذَلكَ؛ لما سَبَقَ في عِلمِ اللهِ وإِرَادَتهِ الكَونِيةِ أَنَّه يَقعُ هَذَا الشَّيءُ.

وكذَلكَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: ٢٨]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ (٢٦)} [النساء: ٢٦]. هَذِه إِرَادَةٌ شَرعِيَّةٌ، قد يَقَعُ مُرَادُهَا وقد لا يَقعُ مُرَادُهَا، مِثلمَا تَقَدَّمَ أنَّ اللهَ أَرادَ مِنْ العِبَادِ أن يَعبُدُوهُ، وأَرَادَ مِنْ العِبَادِ أن يُطِيعُوا الرُّسُلَ، ولَكنْ منْهُم مَنْ أَطَاعَهُم ومنْهُم منْ لمْ يُطِعْ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: ٦٤]. أَكثَرُ الرُّسُلِ ما أَطَاعَهَمْ قَومَهَمْ، وَمِنهُم مَنْ أَطَاعَهُ الكَثِيرُ وعَصَاهُ الكَثِيرُ، ومِنهم مَنْ قَتَلَهُ قَومُهُ.

فالحَاصِلُ: أنَّ الإِرَادَةَ الشَّرعِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنسِ الإِرَادَةِ الكَونِيَّةِ، الكَونِيَّةُ مِنْ جِنسِ المَشِيئَةِ لا يَتَخَلَّفُ مُرَادُهَا، وأمَّا الإِرَادَةُ الشَّرعِيَّةُ فقد يَقَعُ مُرَادُهَا وقد لا يَقعُ مُرَادُهَا؛ لِأَنَّهَا بِمَعنَى الْمَحبَّةِ والرِّضَا، أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ أن يَعبُدُوهُ، يَعْنِي أَحَبَّ مِنْهُم ذَلكَ وأَمَرَهُم بهَذَا وَرَضِي مِنْهُم هَذَا، لَكنَّ الأَكثَرِينَ لم يَستَجِيبُوا للدَّاعِي.

هَذَا مَقَامٌ عَظِيمٌ زَلَّت فيه أَقدَامٌ وضَلَّت فيه أَفهَامٌ مِنْ أَهْلِ الِبدعِ مِنَ المُعتَزلةِ والقَدَريةِ وغَيرِهِم مِمَّنْ سَارَ في رِكَابِهِم، ظَنُّوا أن الِإَراَدةَ وَاحِدَةٌ، قَالُوا: كيف يُخَالَفُ مُرَادُ اللهِ؟! وقد ضَلُّوا في هَذَا، فَالإِرَادَةُ قِسمَانِ، لَيستَ وَاحِدَةً:

<<  <   >  >>