للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وهَذِه كُلُّهَا مِنْ أَعمَالِهِم لِمَا تَقَدَّمَ، كُلُّهَا جَعَلَهَا عَمَلًا؛ فَأقوَالُهُم وأَعمَالُهُم مَخلُوقَةٌ.

وفيه: أنَّ العَملَ منَ الإِيمَانِ، والرَّدُّ على المُرجِئَةِ، فَالأَعمَالُ كُلُّهَا مِنَ الإِيمَانِ، ولِهذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام: «الإِيمَانُ بِضعٌ وسِتُّوَن شُعبَةً -أو قال- بِضعٌ وسَبعُونَ شُعبَةً، فَأفضَلُهَا قَولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عنِ الطَّرِيقِ، والحِيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» (١)، فَجَعَلَ إِمَاطَةَ الأَذَى مِنَ الطَّرِيقِ، وجَعلَ الحَيَاءَ وكَلمَةَ لا إِلهَ إلَّا اللهُ وبَقِيَّةَ أُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا مِنْ الإِيمَانِ.

وأمَّا النَّهيُ عنِ الشُّربِ في الدُّبَّاءِ والحَنتَمِ والنَّقِيرِ والْمُزَفَّتِ فهَذَا كَانَ في أَوَّلِ الإِسلَامِ ثم نُسِخَ، كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُم عن الدَّبَّاءِ: وهو القَرعُ، والحَنتَمِ: وهي الجَرَّةُ تُعمَلُ منَ الطِّينِ، والنَّقِيرُ: يُنقَرُ مِنَ الجُذُوعِ، والمُزَفَّتُ: الْمُقَيَّرُ، كَانُوا يَنبِذُونَ فيْهَا الرُّطَبَ والتَّمرَ والزَّبِيبَ حَتَّى يَتَخَمَّرَ ثم يَشرَبُونَها، فَنُهُوا عن ذَلكَ.

فلمَّا حُرِّمَتِ الخَمرُ صَارَ الْمُسلِمُ قد يَشرَبُها، ما يَعلَمُونَ أَنَّها تَخَمَّرَت؛ لِأَنَّهَا قَوِيةٌ لا يَبِينُ فيها الشِّدَّةُ؛ فَنُهُوا عن النَّبذِ فيها لِئَلَّا يَقَعُوا في شُربِ الخَمرِ، وأُمِرُوا بِالشُّربِ في الأَوعِيَةِ التي يُلَاثُ على أَفْوَاهِهَا مِنَ الجُلُودِ؛ لِأنَّه إذا اشتَدَّ بها الخَمرُ انْشَقَّتْ وانْصَدَعَتْ.

ثم قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ نَهيتُكُمْ عَنِ الانْتِبَاذِ فِي الأَوعِيَةِ، فَانَتَبِذُوا في كُلِّ وِعَاءٍ، ولا تَشرَبُوا مُسْكِرًا» (٢). فَرَخَّصَ لهم بعد ذَلكَ في الانْتِبَاذِ في هَذِه الأَوعِيَةِ، لكن مع الحَذَرِ مِنْ شُربِ الْمُسْكِرِ، يَعْنِي: يَعتَنُوا بها، فإذا ظَهَرَ فيها الشِّدَّةُ وبَانَ فيها التَّخمُّرُ أُرِيقَتْ.

* * *


(١) رواه البخاري (٩)، ومسلم (٣٥) (٥٧).
(٢) رواه مسلم (٩٧٧) (١٠٦).

<<  <   >  >>