إلا ما ينفُقُ في ذلك الزمان. وكانت لديه فنون من العلم، رأيت له كتابًا سماه قُراضة الذهب، في ذكر لئام العرب, ضمنه لئام العرب في الجاهلية والإسلام، وضم إلى ذلك ما يتعلق به من الآداب؛ فجاء الكتاب لا نظير له في فنه؛ رأيته في خِزانة بني عبد المؤمن.
ولمالك بن وهيب هذا تحقق بكثير من أجزاء الفلسفة؛ رأيت بخطه كتاب الثمرة لبطليموس في الأحكام، وكتاب المَجسطي في علم الهيئة، وعليه حواشٍ بتقييده أيام قراءته إياه على رجل من أهل قرطبة اسمه حَمَد الذهبي.
ولما سمع مالك هذا كلام محمد بن تومرت، استشعر حدة نفسه وذكاء خاطره واتساع عبارته؛ فأشار على أمير المسلمين بقتله، وقال: هذا رجل مفسد لا تُؤمَن غائلتُه ولا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه، وإن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كثير! فتوقف أمير المسلمين في قتله، وأبى ذلك عليه دينه. وكان رجلاً صالحاً مجاب الدعوة، يُعَد في قُوَّام الليل وصُوَّام النهار، إلا أنه كان ضعيفًا مستضعفًا، ظهرت في آخر زمانه مناكر كثيرة وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق ينتسب إلى امرأة قد جعلها ملجأ له ووَزَرًا على ما تقدم ...
... فلما يئس مالك مما أراده من قتل ابن تومرت، أشار عليه بسجنه حتى يموت؛ فقال أمير المسلمين: علام نأخذ رجلاً من المسلمين نسجنه ولم يتعين لنا عليه حق؟ وهل السجن إلا أخو القتل؟ ولكن نأمره أن يخرج عنا من البلد وليتوجه حيث شاء!.
فخرج هو وأصحابه متوجهًا إلى سُوس؛ فنزل بموضع منها يعرف بـ تِينمَل.
بدء دعوة الموحدين
من هذا الموضع قامت دعوته، وبه قبره، ولما نزله اجتمع إليه وجوه المصامدة، فشرع في تدريس العلم والدعاء إلى الخير، من غير أن يظهر إمرة ولا طِلْبة مُلك. وألف لهم عقيدة بلسانهم, وكان أفصح أهل زمانه في ذلك اللسان. فلما فهموا معاني تلك العقيدة زاد تعظيمهم له، وأُشربت قلوبهم محبته، وأجسامهم طاعته. فلما استوثق منهم دعاهم إلى القيام معه أولاً على صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا غير، ونهاهم عن سفك الدماء ولم يأذن لهم فيها, وأقاموا على ذلك مدة. وأمر رجالا منهم ممن استصلح عقولهم بنصب الدعوة واستمالة رؤساء القبائل, وجعل يذكر المهدي ويشوق إليه، وجمع الأحاديث التى جاءت فيه من المصنفات. فلما قرر