هذين العبدين قد غلبا عليك، وحالا بينك وبين أمرك، فأْذَنْ لنا نكفِيكهما، فأبى؛ ثم أخبرهما بذلك، فنفيا أولئك القوم، وأخرجا إدريس بن يحيى، وبعثا به إلى الأندلس، وتمسكا بولده لصغره؛ إلا أنهما في كل ذلك يخطبان لإدريس بالخلافة.
ثم إن محمد بن إدريس أنكر من أخيه الملقب بـ السامي أمرًا، فنفاه إلى العدوة، فصار في جبال غمارة، وهي بلاد تنقاد لهؤلاء الحسنيين، وأهلها يعظمونهم تعظيمًا مفرطًا.
ثم إن البرابرة خاطبوا محمد بن القاسم الكائن بالجزيرة الخضراء، واجتمعوا إليه ووعدوه بالنصر. فاستفزه الطمع وخرج إليهم، فبايعوه بالخلافة، وتسمى بـ المهدي؛ وصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة: أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها.
فأقاموا معه أيامًا ثم افترقوا عنه إلى بلادهم، ورجع محمد خاسئًا إلى الجزيرة، ومات لأيام؛ فقيل: إنه مات غمًّا؛ وترك نحوًا من ثمانية ذكور.
فتولى أمر الجزيرة بعده ابنه القاسم بن محمد بن القاسم، إلا أنه لم يتسم بالخلافة.
وبقى محمد بن إدريس المهدي بمالقة إلى أن مات سنة ٤٤٥.
وكان إدريس بن يحيى المعروف بـ العالي عند بني يَفْرَن بتاكرونة؛ فلما توفي محمد بن إدريس بن يحيى المهدي ردت العامة إدريس العالي إلى مالقة واستولى عليها، وهو آخر من ملكها من الحسنيين. فلما مات، أجمع البربر رأيهم على نفي الحسنيين عن الأندلس إلى العدوة، والاستبداد بضبط ما كانوا يملكونه من البلاد، ففعلوا ذلك وتم لهم ما أرادوا منه.
كانت الجزيرة الخضراء وما والاها من القرى إلى تاكرونة، ومالقة وما والاها أيضًا إلى حصن منكب وغرناطة وأعمالها، في ملك البربر. وملكوا مع ذلك بعض أعمال إشبيلية، كحصن أشونة، وقرمونة، وشَلَّبَر. ولم يزالوا كذلك إلى أن أخرج من أيديهم ما كانوا يملكونه من أعمال إشبيلية المعتضد بالله أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، ثم أتم ابنه أبو القاسم المعتمد على الله ما ابتدأه أبوه من ذلك.
وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت، خلا مواضع تبينت غلطه فيها، أصلحتها جهد ما أقدر.
وعلى الله قصد السبيل، وهو المسئول في الهداية قولًا وعملاً.