ثالثا: يرمى الأساذ أبا حنيفة بأنه كان يكتفي بالقليل من الأحاديث، ولا يكلف نفسه عناء البحث عن سائرها ليفهم دينه إلى آخر ما قال: ومعنى هذا أن أبا حنيفة يرى في السنة ما يراه الشيخ. ونعيذ أبا حنيفة كما نعيذ سائر علماء المسلمين من هذه الوصمة القبيحة. لقد كان أبو حنيفة إماما، وإماما مجتهدا يبذل وسعه، ويفرغ جهده في استطلاع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة. وما جاء عنه من الأحكام، مخالفا لبعض الأحاديث فهو معذور فيه على ما بيناه في المقدمة، ونزيد هنا أن أبا حنيفة رضي الله عنه، اشترط في قبول الحديث شروطا شديدة، أملاها عليه البيئة التي عاش فيها، فقد كان بالعراق التي هي عش الخوارج والشيعة، وكثير من أخلاط الأمم، وأوشاب الناس الذين أخذوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قيل في العراق أنها "دار ضرب الحديث"، فلا عجب أن يتوقى الإمام أبو حنيفة لدينه، ويحتاط الحديث، لئلا يدخل عليه من الأباطيل ما يفسد عليه أمره، ولعل الذي دعا أبا حنيفة إلى عدم الإكثار من الرحلة في طلب الحديث، أن الكوفة كانت في الصدر الأول، مهبط الصحابة الذين بثوا أحاديثهم، وعلمهم في التابعين من أهل العراق إلى غير ذلك من الاعتبارات. وسيمر بك البيان الشافي في مبحث النزاع في حجية السنة في القرن الثاني.
"د" قال الشيخ: "بل تجد الفقهاء -بعد اتفاقهم- على جعل الأحاديث أصلًا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين، وبيان ما يحتج به، وما لا يحتج به لم يجتمعوا على تحرير الصحيح، والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة لا سيما كتب الحنفية. فالمالكية والشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق عليها، وعلى صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفا لأصول