أطلعناك أيها القارئ على ألوان من جهود علماء الإسلام، في خدمة الحديث النبوي من حفظ في الصدور إلى تدوين في الكتب، إلى بيان حال المتون من صحة، وضعف إلى محاربة للكذابين في كل عصر، حتى وصلتنا الأحاديث مشفوعة ببيان حالها، فحفظوا بذلك على الأمة دينها، واستحقوا من الله أفضل الجزاء، ومن المسلمين أعظم ثناء وتقدير.
والآن نتحدث إليك عن لون آخر من جهودهم، في خدمة السنة عن طريق علومها المختلفة الأنواع، وما قاموا به من جلائل الأعمال، كوضع قوانين الرواية، وتأسيس قواعد الجرح والتعديل، ورفع التناقض الظاهري عن أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما ستقف على فوائده، فتؤمن ايمانا صادقا بما لأسلافنا من نفاذ في البصيرة، وبعد نظر في عواقب الأمور، وعلو كعب في هذه الفنون الحديثية القيمة، لا سيما إذا علمت أن هذه الفنون لم تأت عفو الخاطر، بل كان بعضها وليد عصور متقادمة، وجهود أمة بأسرها عرفت للسنة قدرها، فأتوا بما لم يأت بعشر معشاره، أمة من الأمم من يوم أن بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى خلقه، وإليك طرفا من جهود علماء الحديث في ذلك:
١- علم ميزان الرجال، أو الجرح والتعديل:
هذا الفن هو، عماد علوم السنة، إذ به يتميز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود، وقد أطبق العلماء على وجوب كشف حال الضعفاء، والكذابين من الرواة، وإقامة النكير عليهم صيانة للدين، فالكلام على جرح الرواة، وتعديلهم أمر واجب على المسلمين، وقد دلت قواعد الشريعة الغراء على أن حفظها فرض كفاية، ولا يتأتى حفظها إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
لذا تكلم في الجرح والتعديل خلائق، لا يحصون ذكر منهم ابن عدي الجرجاني المتوفى سنة "٣٦٥" في كتابه الكامل جملة إلى زمنه:
فمن الصحابة ابن عباس سنة "٦٨"، وعبادة بن الصامت سنة "٣٤"، وأنس بن مالك المتوفى سنة "٩٣"، ومن التابعين عامر الشعبي "١٠٤"، وابن سيرين "١١٠"هـ، وسعيد بن المسيب سنة "٩٣"، وهم قليل بالنسبة