[المبحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر وطريقة العلماء في ذلك]
...
البحث الرابع: تدوين الحديث في هذا العصر، وطريقة العلماء في ذلك
تبلور التدوين للحدي تبعا لسنة التطور من جهة، ولعوامل خاصة، أملتها ظروف الحوادث من جهة أخرى، فبعد أن كان العلماء يدونون الأحاديث ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وجدناهم في هذا الدور يفردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ثم لما قامت محنة القول بخلق القرآن التي أثارها المأمون، وتسلط فيها المعتزلة على أهل الحديث بالانتقاص من قدرهم، ورميهم بحمل المتناقض والمشكل ورواية الخافات، وجدنا من علماء الحديث من انتدب نفسه للرد عليهم، فجمع طعونهم، والأحاديث التي زعموها مشكلة، أو متناقضة ورد عليهم ببيان الحق الذي أزهق باطلهم، ومحق دجلهم وبهتانهم، وعلى ضوء هذا يمكننا أن نرجع الطرق التي تطور إليها التدوين للحديث في هذا الدور إلى ثلاث طرق وهي:
الطريقة الأولى: في هذه الطريقة كان العلماء يجمعون الطعون، التي وجهها أهل الكلام إلى أهل الحديث، سواء منها ما كان يرجع إلى أشخاصهم من العدالة، والضبط أم ما كان يرجع إلى ما حملوه من الحديث، من كونه كلام خرافة أو متناقضا، أو مشكلا ثم يكرون عليها بالإبطال، وينزهون ساحة الأئمة والأحاديث عن هذه الطعون الزائفة، وكان من هؤلاء الأعلام الإمام ابن قتيبة رحمه الله صاحب كتاب "تأويل مختلف الحديث في الرد على أعداء الحديث"، وسيأتي الكلام عليه١.
الطريقة الثانية: جمع الحديث على المسانيد، وذك أن يجمع المحدث في ترجمة كل صحابي ما يرويه عنه من حديثه سواء كان صحيحا أم غير صحيح، ويجعله على حدة، وإن اختلفت أنواعه فمثلا يذكر أبا بكر، ثم يسرد ما رواه عنه من الأحاديث، وإن اختلفت موضوعاتها، ثم عمر كذلك وهلم جرا، ولهم في ترتيب أسماء الصحابة طرق مختلفة، فمنهم من رتبها على القبائل، فقدم بني هاشم ثم الأقرب فالأقرب نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من رتبها على السوابق في الإسلام، فقدم العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا ثم النساء، ومنهم
١ ومنهم علي بن المديني، فقد صنف كتاب "اختلاف الحديث" في خمسة أجزاء.