كان القرن الثالث، الهجري هو أزهى عصور السنة، وأحفلها بخدمة الحديث، ففيه ظهر أفذاذ الرجال من حفاظ الحديث وأئمة الرواية.
وفيه ظهرت الكتب الستة، التي لم تغادر من الحديث الصحيح، سوى النزر اليسير، وفيه اعتنى أئمة السنة بالكلام على الأسانيد، وتواريخ الرجال ومنزلتهم في الجرح والتعديل، ولم يكن العلماء في هذا القرن، يدونون الأحاديث بالنقل من كتب أخرى، بل كان اعتمادهم على ما حفظوه عن مشايخ الحديث، وعرفوا جيده من رديئه وصحيحه من ضعيفه، وما كادت شمس هذ القرن تؤذن بمغيب حتى كانت الموسوعات الحديثية، تزخر بالحديث وعلومه وصار العلماء في القرن الرابع، وما بعده يجمعون ما تفرق في كتب الأولين، أو يختصرونها بحذف الأسانيد، أو يقومون بشيء من الترتيب، والتهذيب إلى غير ذلك، وإذا تكلموا في شيء من الأسانيد، فبلسان من سبقهم من أهل القرون الأولى -غير أن جمهرة كبيرة منهم نسجوا على منوال السابقين، وكان لهم في رواية الأحاديث، وفحص الأسانيد باع طويل.
هذا وكان العلماء في الأدوار السابقة، لا يعتمدون إلا الرواية الشفاهية في نقل الأحاديث، ولا يعولون على مجرد الكتب، حتى ينقلوا أحاديثها بطريق السماع من مؤلفيها، ولو كلفهم ذلك أن يرحلوا الشهور الطوال.