للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المبحث الثالث: رد شبه واردة على منهج الصحابة في رواية الحديث، والعمل به

رب قائل يقول: إن الصحابة كانوا يزهدون في رواية الحديث، بل ويرغبون عنها؛ لأنهم ما كانوا يعملون إلا بالقرآن، وما اشتهر من السنن ثم يحكمهم آراءهم فيما سوى ذلك، ولهذا أشاروا بتقليل الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل عنهم العمل بالرأي في كثير من الحوادث، التي كانت تعترضهم، كما نقل عنهم أنهم ردوا بعض الأخبار وطلبوا البينة على صحة بعض آخر منها، أو استخلفوا الرواة على أنهم سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا منهم رغبة عن الرواية ورد للسنة الآحادية، وتقديم للرأي على النص وهو خلاف ما عرف عنهم.

والجواب عن ذلك:

١- أن أمرهم بتقليل الرواية، إنما كان خشية أن يحدث المكثر بما لم يحفظه؛ لأن ضبط المقل أكثر من ضبط المكثر. كما كرهوا الإكثار لئلا يتخذه المغرضون من المنافقين مطية لأهوائهم، فيدسوا في الحديث ما ليس منه. ثم هناك أقوام لم يكونوا أحصوا القرآن، فخافوا عليهم الاشتغال بغيره، وهو الأصل الأول في الدين.

٢- وأما طلبهم شاهدا على السماع، أو استحلافهم الراوي عليه، فلم يكن ذلك شأنهم المستمر، بل كان يحصل منهم ذلك، إذا ما ارتابوا في ضبط الراوي بدليل أنهم كانوا يقبلون أخبارا عن أفراد من الصحابة، لم يروها غيرهم إذا ما اطمأنوا لحفظهم، فقد قبل عمر رواية الضحاك بن سفيان، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته"، ولم يطلب منه بينة على ذلك، ورجع من"سرغ" لما بلغه أن الوباء نزل بالشام لحديث عبد الرحمن بن عوف، ولم يوجد الحديث عند غيره من المهاجرين والأنصار، ممن كانوا مع عمر، ولم يطلب على ذلك بينة، وعلي كرم الله وجهه يقول في حديثه السابق: "وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر"، فلم يستحلفه لما كان صادقا عنده وعمر يقول لأبي: أما أني لم أتهمك، ولكن أحببت أن أتثبت"، إلى غير ذلك.

٣- وأما أنهم كانوا يعملون بآرائهم، ويتركون الحديث فهذا

<<  <   >  >>