كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في حياته مرجع المسلمين في تدبير شئونهم العامة: من تشريع، وقضاء، وتنفيذ. وكان قانونه في هذا التدبير ما ينزل عليه من ربه، وما يهديه إليه اجتهاده ونظره في المصالح، وما يشير به أولو الرأي من صحابته فيما ليس فيه تنزيل. وكان التدبير بهذه المصادر يتسع لحاجات الأمة ويكفل تحقيق مصالحها.
وقد ترك الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في أمته هاديين لا يضل من اهتدى بما في تدبير شئونهما وهما: كتاب الله، وسنته. وأقام منارًا ثالثًا يستضاء به -فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة- وهو: الاجتهاد الذي مهد طريقه، ودعا إليه بقوله، وعمله، وإقراره. ذلك لأنه -صلّى الله عليه وسلّم- كثيرًا ما كان يبلغ الأحكام مقرونة بعللها والمصالح التي تقتضيها، وفي هذا إيذان بارتباط الأحكام بالمصالح، ولفت إلى أن الغاية إنما هي: جلب المنافع، ودرء المفاسد. فمن أمثلة هذا قوله في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها:"إنكم إن فعلتك ذلك قطعتم أرحامكم". وقوله في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ثم إباحتها:"إنما نهيتكم من أجل الدافة". وقوله في الهرة وطهارة سؤرها:"إنها من الطوافين عليكم والطوافات". فهذا ونظائره في الكتاب والسنة مما فيه نص على علة الحكم أو إشارة إليها كان تمهيدًا للسبيل إلى الاجتهاد لأنه بهذه العلل يتوصل إلى إلحاق الأشباه بالأشباه، وتعرف الحكم في كل موضع لا نص فيه. وقد أقر