نلاحظ في الهجرات التي أشرنا إليها فيما سبق، أن أصحابها كانوا - قبل نزوحهم إلى مصر، يسكنون في المنطقة التي تقع شمالي صحراء النفود أو في بادية الشام. وهذه المنطقة هي المستودع الذي أمد مصر بالموجات العربية منذ أقدم العصور، وهو نفسه الذي أمدّ مصر بالموجات العربية للقضاعيين وغيرهم من أعقاب سبأ. غير أن هناك فارقاً بين المواطن العربية الأولى لكل من المجموعتين. فالموجات التي ذكرناها في الفصول السابقة كانت مواطنها الأولى - على حسب ما أنتهى إلينا من أخبارها - هذه المنطقة أو المستودع الذي أشرنا إليه. فلا دليل على أن الأنباط - مثلا - كانوا قد نزحزا من أية جهة نائية من جهات شبه الجزيرة العربية قبل أن يستقروا في هذه المنطقة. أما القضاعيون فلم تكن هذه المنطقة، أو هذا المستودع، مواطنهم الأصلية على الراجح - وإنما كانوا في بلاد اليمن، ثم انتقلوا إلى الحجاز، ثم إلى هذه المنطقة في حوالي القرن الأول الميلادي. وأصل قضاعة موضع خلاف واسع بين نسابة العرب ومؤرخيهم. ولامناص من أن نقف قليلا عند هذا الخلاف حتى نتبين وجه الحق فيه. يختلف النسابة في نسب قضاعة أهم من حمير أم من معد بن عدنان. ويظهر أن العصبيات القحطانية والعدنانية قد تدخلت في إيجاد هذا الخلاف. والحق أن أقدم الروايات يفيدنا بأن قضاعة تنتسب إلى حمير بن سبأ، وأن صلتها بجنوب بلاد العرب يمكن أن يؤيد بشواهد كثيرة ومن المحتمل أن هذا النسب قد توارثه القضاعيون منذ أن كانت حمير دولة عزيزة الجانب في اليمن. وقضاعة معناها اللغوي " الفهد " اسم معروف بين أسماء قبائل حمير الجنوبية وورد في حديث نبوي أن عقبة بن عامر الجهني " وجهينة من قضاعة " قال: يا رسول الله ممن نحن قال: أنتم من قضاعة ابن مالك. ويروون رجزاً ينسبونه إلى عمرو بن مرة الجهني، وكان صحابياً، يثبت نسب قضاعة في حمير وسمع الهمداني هذا الرجز ينشده بنو نهد " فرع من قضاعة " في بوادي معد بن عدنان، وفي ديار هوازن، ويرتجزون به في حروبهم ويروى ابن اسحاق ت ١٥١ هـ وابن الكلبي ت ٢٠٦ هـ وطائفة من أهل النسب أن قضاعة من حمير. إلى أن انتقال قضاعة إلى شمالي بلاد العرب، واتصالهم الوثيق ببلاد معد بن عدنان وكان بعضهم