العصور، وأئمة المسلمين على مر الدهور. فهم أصحاب تلك المفخرة، وبناة ذلك الصرح الخالد، وملاك مفاتيح قصوره. وكيف لا؟ وهم ورثة الأنبياء، ورسل الرسل، وحملة الشريعة، وأمناء المِلّة، وحرّاس الدين، والموقعين عن رب العالم، والموقعين عن رب العالمين!!
فخرجت علوم السنة من عصارة تلك العقول، ومن نتائج تلك الأفكار، علوماً عميقة، بعيدة الغور، دقيقة المسالك، فليس من السهل فهمُها، ولا من المتيسر إدراكها.
وعبّر عن ذلك قائلهم، بنوع من الطّرافة، فقال:((الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم)) (١) .
وكان قد بدأ مع نشأة هذه العلوم استخدام ألقاب وأوصاف للأحوال المختلفة للراوي والمروي، هي المسماة بمصطلح الحديث. وكانت تلك المصطلحات حية المدلول العرفي بين المحدثين حقبة من الزمن، فلم تكن تغمض عليهم معانيها، ولا يستشكل عليهم مفادها.
فلما تناقص العلماء، وتفانى أصحاب الحديث، واجتالت علومهم عوامل الضعف والتغير؛ بدا علم الحديث غريباً بين أهله، بعيداً بين أقربائه. فانبرى لذلك البقية المتبقية من علماء الحديث ونقاده، إلى شرح مصطلحه وبيان أصوله وضوابطه.
لكن (وعلى مر الأزمان) تعددت المناهج في فهم مصطلح الحديث، فاختلفت الأقوال في تفسيره؛ وتباعدت الطرائق في دراسة أصوله، فتباينت المذاهب في وضع قواعده وتحديد ضوابطه. وتأثرت كتب علوم الحديث بعقائد مؤلفيها ومذاهبهم،
(١) انظر الكامل لابن عدي (١/٥٨ـ ٥٩) ، وترجمة الزهري في تاريخ دمشق لابن عساكر، المطبوعة مفردة (١٥٠) .