للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضآلين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثيرٍ من الخلق في ذلك مفسدة؛ لأمور:

منها أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس ثياب الجند والمقاتلة مثلاً يجد من نفسه نوع تخلقٍ بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك؛ إلا أن يمنعه مانع.

ومنها أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام ـ لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة ـ كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.

ومنها أن مشاركتهم في الهدي توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهراً بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضَّالين ... إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة.

هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوعٍ من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له)).

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قد قال في أول كتابه الاقتضاء:

((وهنا نكتة ... وهي أن الأمر بموافقة قومً أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم؛ مصلحة، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم؛ مصلحة، بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسابقين في أعمال، لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث ذلك من محبتهم، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، وأن ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى، إلى غير ذلك من الفوائد، كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف متضمن للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه، لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلاً على المفسدة، ومخالفتهم دليلاً على المصلحة، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة، وعلى الأول من باب قياس العلة، وقد يجتمع الأمران ـ أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل

<<  <   >  >>