للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالسَّبَبُ شُهُودُ الشَّهْرِ وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَقَدْ تَرَاخَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] (وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا لِقِيَامِ السَّبَبِ وَلِأَنَّ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ لِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ) .

هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الْعَزِيمَةَ أَوْلَى وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ وَتَرْكَ الْعَزِيمَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلْيُسْرِ وَالْيُسْرُ حَاصِلٌ فِي الْعَزِيمَةِ أَيْضًا فَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ مُوَصِّلٌ إلَى ثَوَابٍ يَخْتَصُّ بِالْعَزِيمَةِ وَمُتَضَمِّنٌ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالرُّخْصَةِ فَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى (إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ فَلَيْسَ لَهُ بَذْلُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلَ

ــ

[التلويح]

وَنَفْلٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ، أَوْ طَرَفِ التَّرْكِ لِيَشْمَلَ الْحَرَامَ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ. نَعَمْ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْعَزِيمَةِ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ، وَهَذَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سُنَّةً، أَوْ نَفْلًا كَمَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، أَوْ سُنَّةٍ كَوْنَهَا مَنْدُوبَةً، فَإِذَا عَرَضَتْ حَالَةٌ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الصَّلَاةُ مَعَهَا مَنْدُوبَةً كَحَالَةِ الْخَوْفِ مَثَلًا فَيَكُونُ تَرْكُهَا رُخْصَةً، أَوْ حُكْمًا مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرْمَةِ الْمَنْعُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، أَوْ الرُّجْحَانِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ.

فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِبَاحَةُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ تُوجِبُ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ وَهُمَا الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ.

أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرْمَةِ كَمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَعُفِيَ عَنْهُ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَرِّمُ قَائِمٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا فَكَيْفَ اقْتَضَى تَأْيِيدَ الْحُرْمَةِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي قُلْنَا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ جَازَ تَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُهُ بِخِلَافِ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّرَاخِي عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا فَتَقُومُ الْحُرْمَةُ بِقِيَامِهَا وَتَدُومُ بِدَوَامِهَا.

(قَوْلُهُ: لَكِنَّ حَقَّهُ أَيْ حَقَّ الْعَبْدِ يَفُوتُ صُورَةً) بِخَرَابِ الْبِنْيَةِ وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ أَيْ خُرُوجِهِ مِنْ الْبَدَنِ.

(قَوْلُهُ: حِسْبَةً) أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ الِاحْتِسَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ صُورَةً وَمَعْنًى بِتَفْوِيتِ حَقِّ نَفْسِهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنْتَ أَيْضًا فَخَلَّاهُ. وَقَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنَا أَصَمُّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعَادَ جَوَابَهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ» .

(قَوْلُهُ: وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) نَبَّهَ بِهَذَا الْمِثَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ الْمُحَرِّمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تُرَجَّحَ الْحُرْمَةُ إلَى الْفِعْلِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ إلَى التَّرْكِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>