والحقّ أن القرآن الكريم نفسه لم يدع لنا الاجتهاد في تحرير مقصوده الأعظم استنباطًا، فنتفاوت في تحريره، بل قرَّر لنا ذلك في آيات كثيرة، فإن للقرآن الكريم حديثا عن نفسه ليس كمثله حديث أحد من العالمين، فمن أراد أن يعلم حقيقة القرآن الكريم ورسالته ومنزلته وفضله، فليس عليه إلا أن يستجمع في سمعه وبصره وقلبه الآيات التي تتحدث عن القرآن الكريم، وينسقها مستحضرًا سياقاتها التي تقوم فيها في سورها , فإنَّ في هذا من الكشف ما فيه، فخير الحديث عن القرآن الكريم هو حديث القرآن المجيد نفسه، ثُمَّ من بعده حديث النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، وجميل أن يعمد عامد إلى جمع الحديثين: حديث القرآن الكريم والسنة عن القرآن العظيم في وعاء بحث تحليليّ تأويليّ.
ومن رحيمية الله - جل جلاله - أو رحمانيته أنَّه إذا ماكان مستفتحًا سورة (أم الكتاب: الفاتحة) بالحديث عن نفسه معلنا استحقاقه الحمد , ومعلما عباده كيف يحمدوه، مبرزًا لهم خمسة أسماء من أسمائه الحسنى: اسم الذات وأربع صفات من صفات كماله العَلِيّة: الله - ربِّ العالمين , الرحمن ,الرحيم، مالك يوم الدين , فإنَّه - جل جلاله - يستفتح أول تفصيله {أم الكتاب} بسورة {البقرة} مستهلا بيانه بالحديث عن القرآن الكريم:
وإذا ماكان - جل جلاله - قد نسق اسمه وصفاته الحسنى نسقا دالا على عظيم ارتباطها واعتلاقها، فاستغنت عن ناسق لسانيّ (حرف عطف) فجاءت متتابعة غير معطوفة (الله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) فإنه - سبحانه وتعالى - أيضًا نسق حديثه عن القرآن العظيم نسقا تتابع فيه النعوت على نحو لامحلّ فيه لعاطِفٍ، فهي نعوت يتناسل ثانيها من أولها , وثالثها من ثانيها