لا يكونُ العالِمُ نافعًا قومَه إذا لم يكنْ له مقامه الحميد بين يدي طلابه في قاعات الدرس والمباحثة والمحاورة يكوّنُ شخصياتهم العلمية ويشكلها ويغريهم بالتلذًّذ بطلب العلم والتأدب بجليل أخلاقه ونعوته، وإذا لم يكن له مقامه الحميد الداعية إلى الله - عز وجل - بحسن خلقه وجليل زهده فيما لا يليق بوارث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتطلع إليه، فإنّها وراثة علم وخلق وطاعة لله ربّ العالمين.وهو - أي العالم - لا يَقْصِرُ جوده وعطاءه الماجد على طلاب العلم في عصره ومصره، بل هو الذي يَحْرِصُ حِرصًا بالغًا على أن تكونَ مائدةُ علمِه منصُوبةً عامِرةً بالقِرَى لكلِّ طالبِ علمٍ في كلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ، فإنْ غاب عنهم جسدُه فإنَّ عقلَه وقلبَه وأدبَه قائمٌ في أسْفارِه التي تَخُطُّها يمينه والتي سيكونُ جزاؤه عند الله - سبحانه وتعالى - يوم القيامة أن يستحيل مدادها أزكى من المسك طيبا. وذلك جزاء من جنس العمل، فإنَّ ذلك المِدَادَ قد كان سَبَبًا في أن غيّرّ حياة النَّاس بما نشر من العِلْمِ النّافع إلَى ما هُوَ أسْمَى وأزكَى، فكان الجزاءُ استحالَتَه إلى ما هو أطيبُ من المِسْكِ يومَ القِيَامة.
إنَّ نفسَ العالم لتستطيب رائحة المِدادَ أكثر مما يستطيبُ غيرها رائحة المسك في الدنيا.
إنَّ إعداد البحوثِ وتأليفَ الأسفارِ ونشرَها في طلابِ العِلمِ لمسؤوليَّة جليلةٌ لا يَليقُ بعالِمٍ يَملكُ القدرةَ على أن يقومَ ببعض حقِّها أن يَرغبَ عنها أو يَتشاغَلَ دونها بعَرَضٍ من أعراضِ الحياةِ الدُّنيا
وذلك ما كان من "البقاعيّ" قدَّم لطلابِ العلمِ وللمكتبة الإسلامِيَة أكثرَ من ستين كتابًا ورسالَة، وقد بلغت بعضُ مؤلفاتِه عدِّة مجلداتٍ، وكانت بعضُ رسائلِه وريقاتٍ مخطوطةً إذا ما فُصّل إجمالُها بلغت مجلدًا عظيما، وقد انصرفت الأبصارُ عن كثير من آثاره زمنا طويلا، ولم يكد يسمعُ كثيرٌ من النَّاس باسمه إلاَّ منذ أقلَّ من ثلاثةِ عُقودٍ، بل ما كان يعرفُه مُفَسِّرًا إلا قليلٌ من المشتغلين بعلومِ الكتابِ والسُّنَّةِ والعربية