قوله:(متشابها مثاني) جامع أصلاعظيما من أصول البيان القرآني الحكيم اقتضاه المقصود الأعظم من إنزال القرآن الكريم، ومايعليه منهاج التربية الربّانيّة المفاض من معدن الرحمة بالعالمين.
المقاصد الكلية للقرآن الكريم لايأتي البيان عنها في موضع واحد من القرآن الكريم بل تراه يصرِّف البيان عنها في مواضع عديدة وينوع طرائق الدلالة عليها تنويعا لايكاد التدبُّر النافذ والوسيع يحيط بها.
يقول البقاعيّ في تأويل قول الله - سبحانه وتعالى -: (متشابها مثاني)
" (متشابها) أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقًا في نيّفٍ وعشرين سنة.... ولم يقل " مشتبهًا" لئلا يظن أنّه كله غير واضح الدلالة، وذلك لايمدح به.
ولمَّا كان مفصّلا إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله (مثاني) جمع مثْنَى من التثنية بمعنى التكرير أي تثنّى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيانِ في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يملُّ من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره مع انَّ جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده ... فلا ترتب على شيءٍ من ذلك جزاء صريحًا إلاَّ ثُنّي بإفْهامِ ما لِضِدّه تلْويحًا، فكان مذكورا مرّتينِ، ومرغبًا فيه أو مرهّبًا منه كرَّتين....
وفائدة التكرير انَّ النفوس أنفر شيءٍ عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكررعليه عودًا على بَدْءٍ لم يرسُخْ عندَها، ولمْ يعْمَلْ عَمَلَهُ، ومن ثَمَّ كان النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا يكرّرُ قولَهُ ثلاثَ مرَّاتٍ فَأكْثَرَ....." (١)
البيان القرآنيّ قائم على أصلين عظيمين أشرت إليهما من قبل، وأثنّي الإشارة إليهما تقريرا وتوطيدًا: