للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العداوات الشديدة، ومكثوا سنين كثيرة في حروب دامية، واستحكمت بينهم العداوات والإِحَنُ والأَضْغَان، فألَّف الله بين قُلُوبهم بنبيه صلى الله عليه وسلم كما قال هنا: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} التأليف في لغة العرب معناه: الجَمْع. أي: جمع بين قلوبهم فَصَارَتْ على قلب رجل واحد، نِيَّتُها إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، ونصر نبيّه، ومحبة كل للآخر بعد أن كانت قلوبهم غير مجتمعة ولا متألِّفَة، بل هذا يريد قتل هذا، وهذا يريد قتل هذا، بقلوب شتى لا تَتَأَلّف؛ ولذا قال: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} يعني: لو صرفت ما في الأرض جميعًا لِتُؤَلّف بين قلوبهم ما أمْكَن ذلك أبداً. ومِنْ أعظم الأسباب الدنيوية لكل شيء: المال، فإنه يؤلِّف القُلُوبَ ويُزِيلُ العَدَاوَةَ. يعني: لَوْ أنْفَقْتَ جَمِيعَ ما في الأرض ما قدرْتَ على أن توفق بين قلوبهم ولا أن تُوَحِّدَها، ولكن الله العظيم بقدرته وجلاله أَلَّفَ بَيْنَ قلوبهم؛ لأنه تعالى وحده هو الذي يملك القلوب ويصرّفها كيف يشاء؛ إذ كل إنسان قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبه كيف يشاء، كما قدّمنا بَسْطَه في تفسير قوله: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: الآية ٢٤]. الذي بيده القلوب يُصَرِّفُها كيف يشاء، ويقلبها كيف يشاء هو وحْدَهُ الذي يقدر على تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولمّ شَعْثِهم، وإزالة ما كان بينهم كما تَقَدَّمَ في قوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} [آل عمران: الآية ١٠٣] وهذا معنى قوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية ٦٣].

<<  <  ج: ص:  >  >>