للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وتشريعاته، فلا يقول إلا ما هو في غاية الإِحْكَام، ولا يَفْعَلُ إلا ما هو في غَايَةِ الإِحْكَامِ ولا يأمر إلا بالخَيْرِ، ولا ينهى إلا عَنِ الشَّرِّ، ولا يجازي بالشَّرِّ إلا الشر، ولا بالخير إلا الخير. وكان بعض العلماء يقول: الحكمة هي العلم النافذ الذي يَعْصِمُ الأقْوَالَ والأفْعَالَ أن يَعْتَرِيها الخلل.

وهي في الاصطلاح: إِيقَاعُ الأمور في مَوَاقِعِهَا ووضْعُها في مواضعها (١)، ولا تتم الحكمة إلا بالعلم، فلا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، وبقدر ما يكون في العلم مِنَ النَّقْصِ يكون في الحكمة؛ لأنَّكَ تَرَى الحاذِقَ القُلَّب البَصِير يعمل الأمر يظن أنه في غاية الإحكام، وغاية الإتقان، وأنه وضعه في موضعه، وأوْقَعَهُ فِي مَوْقِعِهِ، ثم ينكشف الغيب بعد ذلك أن فيه هلاكه أو ضرراً عظيماً عليه فيندم ويقول: ليتني لم أفعل، ولو فعلت لكان كذا، كما قال (٢):

ليتَ شِعْرِي وأينَ منِّي ليتُ ... إنَّ (لواً) وإنَّ (ليتاً) عناءُ

وفي الحديث: «إِنَّ (لَوْ) تَفْتَحُ الْباب للشَّيْطانِ» (٣). قال الشاعر (٤):

أُلَامُ عَلَى (لَوٍّ) وَلَوْ كُنْتُ عَالِماً ... بِأَذْنَابِ (لَوٍ) لَمْ تَفُتْني أوَائِلُهْ

والله وحده (جل وعلا) لا يجري عليه لو فعلت كذا لكان أصوب؛ لأنه عالم بخفايا الأمور، وما تنكشف عنه الغيوب، وما تجري به الأقْدَار، فلا يجري عليه شيء مِنْ ذلك، فلا يفعل فعلاً إلا وهو في غاية الإِحْكَامِ، ولا عملاً ولا تكليفاً ولا جزاءً إلا هو في غاية الحكمة، والوضع في الموضع، والإيقاع في الموقع؛ ولذا قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وهذان الوصفان من أسمائه (جل وعلا) من أعظم ما يستدعي الإنسان إلى أن يطيع ربه ولا يعصيه، وأن يَذْكُرَهُ ولا يَنْسَاهُ، فلأن كونه عليماً تعرف به أن علمه المحيط بكل شيء يقتضي أنه لا يدعوك إلا لما لك فيه الخَيْر والعواقب الحسنة الجميلة؛ لأنه يعلم عواقب الأمور، وما تؤول إليه، وما تنكشف عنه الغيوب،


(١) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من هذه السورة.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام.

<<  <  ج: ص:  >  >>