للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كانت من مراحل تشريع القتال. وإيضاح هذا المعنى: أنه جَرَتِ الْعَادَة في كتاب الله أن الله (تبارك وتعالى) إذا أراد أن يُشرع أمراً عظيماً شاقّاً تشريعه على النفوس إنما يُشرِّعه على سبيل التدريج لا مَرَّة واحدة؛ لأنه حكيم عليم. وهذا أمثلته كثيرة، فمنها: أنه لمّا أراد تحريم الخمر وكانت -قبّحها الله- تَصْعب مفارقتها على مَنْ أَلِفَهَا وتَعَهَّدَهَا حَرَّمها تَدْرِيجاً، ذَمّها أَوَّلاً فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: آية ٢١٩] فبدأ بعيبها، وأن فيها الإثم الكبير، وقال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لتبتدئ نفس المؤمن تشمئز منها، ثم بعد ذلك حَرَّمَهَا في أوقات الصلاة، يعني أنها حُرمت عليهم في بعض الأوقات دون بعض، فحرِّم عليهم شربها في الوقت التي تقرب فيه أوقات الصلاة، وكانوا إذاً لا يشربونها إلا من بعد صلاة الصبح؛ لأن مَنْ شَرِبَهَا بعد صَلاة الصبح يصحو قبل صلاة الظهر، وكذلك بعد صلاة العشاء؛ لأن مَن شربها بعد صلاة العشاء يصحو عادة قبل صلاة الصبح، أمّا غير هذا من الأوقات فحرِّم عليهم شربها، كما قال تعالى: {لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: آية ٤٣].

ثم لما أَنِست نفوسهم بتحريمها في الجملة، وعيبها أولاً، حرّمها تحريماً باتّاً في سورة المائدة بقوله: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: آية ٩٠] وعَلَّقَ الْفَلَاح على اجْتِنَابِهِ، فكان هذا أسهل للتدريج الذي وقع في تحريمها.

وكذلك لمّا أَرَادَ تَشْرِيعَ الصوم -والصوم عبادة شاقّة على النفوس؛ لأن فيها منع البطون والفروج عن شهواتهما- شرّعها تدريجاً: كان أول ما بُدِئ: وجوب الصوم بثلاثة أيام من كل شهر

<<  <  ج: ص:  >  >>