وأما القضية الأخرى " إثبات النبوة " التي بها يفتح باب السمعيات كافة فتواطأ على إنكارها أو تأويلها الفلاسفة كلهم وتبعهم الباطنية وغلاة الصوفية وخيرهم طريقة من قال: (إن الشريعة والفلسفة رصيفان والنبي والفيلسوف سيان) ولا يهمنا هنا من الحديث عنها إلا بيان الرابط بينها وبين الأولى فإن المتكلمين لما أخطأوا في تقرير مسألة حدوث العالم وأصلوا ذلك الأصل الفاسد جاءوا إلى هذه القضية وصاغوا برهان إثباتها بما يرجع إلى الأولى التي ضلوا فيها وتقهقروا فكانت الكارثة مضاعفة.
لقد صاغ هؤلاء القوم برهان إثبات النبوة وصدق الرسول الذي هو أصل الأصول في سلسلة من القضايا ما أنزل الله بها من سلطان ولا قام عليها من العقل الصحيح برهان، وهي: -
(أنه لا أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات، ولا تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح - يعنون المرسل وهو الله تعالى - ولا يثبت أنه لا يفعل القبيح إلا إذا ثبت أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يكون مستغنياً إلا إذا كان غير جسم، ولا يكون غير جسم إلا إذا ثبت إنه قديم)(١) .
ومن الواضح أن هذه السلسة كلها تتساقط إذا نقضت قاعدتها أي آخر قضاياها، فمن زعم أو ادعى أن المرسل غير قديم، - أو أن العالم قديم - فقد أبطل تلك القضايا كلها ومنها إثبات النبوة، وكذلك عندهم من زعم أنه جسم! .
(١) انظر درء تعارض العقل والنقل: ١/٩٧، ١٠٤، ١٢١، و٩/١٣٣.