للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهكذا نرى هذين الفاتحين العظيمين قد خلّفا الأندلس وراءهما بعد أن قاما بما يمكن اعتباره معجزة من معجزات الفتوحات الإسلامية في مدة قاربت أربع سنوات من الجهاد المتصل والحركة الدائمة. لقد استطاع هذان الرجلان -مع جيش من المسلمين من بين عرب وبربر لا يزيد على ثلاثين ألف مقاتل- أن يفتحا قطرا أوروبيا واسعا يعتبر من أصعب الأقطار الأوروبية من الناحية الجغرافية. وقد قام المسلمون بهذا الفتح العظيم بشجاعة تعتبر مضرب المثل، وساروا على خطة عسكرية وسياسية واضحة, تدل على خبرة جيدة بمسائل الحروب وفتوح البلدان، وقاد موسى وطارق ورجالهما بحزم ونظام وبصيرة تذكرنا بقيادة خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص وأبي عبيدة بن الجراح وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم في فتوحات المشرق.

ومع أن المسلمين وصلوا بفتوحاتهم إلى الركن الشمالي الغربي -وهو الإقليم المسمى "أشتوريش" في منطقة "جليقية" وشارفوا سواحل المحيط عند خليج "بسكاي"- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها. وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى "بلاي" "Pelayo" "ت ٧٣٧م" استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال "قنتبرية"- وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف "كوفا دونجا"، ويسميها العرب "صخرة بلاي"؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم١.

وفي هذه البؤرة الصغيرة "كوفا دونجا" -أو صخرة بلاي- نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة "ليون" ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة "ليون"، ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين، وعرفت هذه الحصون في المصادر العربية باسم منطقة


١ نفح الطيب "١/ ٢٧٦"، وراجع البيان المغرب "٢/ ٢٩".

<<  <   >  >>