سوى عدم الانتماء المتمثّل في الموقف السلبي أو اللامبالي.
وأما أن يتحسس المشكلة بإحساس أو بوعي، فيلمس ما بدأ يظهر من تناقض بين ظاهر تلك التقاليد وبين ممارساتها في الواقع النامي, فيدرك أن إنسانية القبيلة بدأت تخلي المكان لأشكالٍ من التمايز أو التفاوت، ويبدأ هذا الإحساس بوطأة هذه الظاهرة يقترن بوعي جديد لمشكلة تباين الناس من حيث الفقر والغنى، الوفرة والحرمان، ومن حيث تمركز السلطة أو الزعامة، وفي أيدي الأثرياء على حساب المحرومين, فيمضي في أول سعيه لإقامة حوار مع المجتمع المتمثل في القبيلة, يبدؤه بالكلام وقد ينتهي به إلى امتشاق السيف ليبتّ حبل الصلة التي ترطبه بهذا الكيان المرافق لأزلية الصحراء، وإن الخارج على القبيلة من منطلق اجتماعي لا يتمثّل نفسه منفصلًا عن واقع القبيلة فحسب، وإنما يتصور مجتمعًا آخر لا بُدّ أن تقوم به جماعة من الناس, ويظل هذا تعبيرًا عن الحلم بمكمن ما.
ومن النماذج التي اختارها معبرة عن هذين النمطين من الخارجين: طرقه بن العبد، وعنترة بن شداد، وبعض شعراء الصعاليك.
أما طرفة فيرى في معلقته أمرين يستحقان التوقف عندهما: شكواه من ابن عمه الذي لم يدفع إليه وإلى أخيه حقوقهما, والتشهير بالبخلاء وتحذيرهم من أن الموت إذا اصطفى الكرام فإنه يصطفي أموال البخلاء, وهو أيضًا يحاول عن طريق الحس الجمالي أن يعبر عن حقيقتين متعارضتين، الأولى: ما في إنسانية القبيلة من سجايا، والثانية: ما في الحضارة من مناعم ورفاه ومتع وتفتح فردي, ولكن الجمع بينهما مستحيل، فلدخول الناس عتبة التقسم الطبقي لا بُدّ من ثمن تؤديه أكثرية الناس١.
وأما عنترة فيرى الباحث أنه يوافق طرفة من جانب ويباينه من جانب آخر، كما يرى أن الظروف قد طبعته بطابع فريد, فهو يحمل أفضل خلال القبيلة: الشجاعة وكبر النفس والعفة ورحابة الصدر، حدبًا على أمه وعطفًا عليها، فضلًا عن رقة في الطباع بالرغم من شدة بأسه، ولكن عنترة وإن ظل في رحاب القبيلة، فقد يسر له لونه إمكان الإنفكاك عنها، كما هيأ له بعدًا ذاتيًّا منها, جعله ينظر إلى نفسه ووالدته