للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وفي المائة سنة التي تلت وفاة الفارابي (٣٣٩/٩٥٠) تواجهنا ظاهرة تلفت النظر حقا، وهي زيادة الاهتمام بأدب الحكمة اليوناني: كان قسم كبير من هذا الأدب قد ترجم في فترة مبكرة، فكان هم المثقفين في الحقبة التي أشير إليها أن يجدوا النظر فيما كان قد ترجم، وأن يعيدوا إبرازه، أو أن يترجموا أشياء جديدة لم تكن قد ترجمت من قبل (١) . وهنا علينا أن نلحظ أمرا هاما راعاه أولئك المثقفون أو بعضهم، فإنهم كانوا حريصين على الفصل بين أدب الحكمة وبين الشعر، كذلك فعل أبو سليمان المنطقي في الفصل الذي عقده لاوميرس (٢) ، وعلى ذلك جرى ابن هندو في " الكلم الروحانية " فإنه بعد أن نسب الأقوال الحكمية لكل فيلسوف على حدة، عقد فصلا خاصا بعنوان " مما نقل من أشعارهم إلى العربية (٣) "، ومن بعد تلك الحقبة التزم الشهرستاني (٥٤٨/١١٥٣) بهذا المبدأ، وخاصة في ترجمة أوميرس، جريا على ما أختطه أبو سليمان (٤) . وقد كان لهذا الفصل بين النوعين قيمة محدودة ذلك لأنه دل بأمانة على مصادر الترجمة، ولكن طبيعة الشعر المترجم، كانت شديدة الشبه بالأقوال الحكمية، حتى ليمكن القول إن هذا الشعر لم يترجم إلا لأنه كان يمثل وجها من وجوه الحكمة اليونانية، وأن روعته الشعرية لم تكن هي لحافز الأول على الاهتمام به. وإذا كانت تلك النماذج الشعرية قد أثبتت أن الشعر لم يكن مقصورا على العرب، فإنها لم تزد على أن أكدت أن اليونان قوم حكماء، وأن حكمتهم لا تقل في أهميتها عن " أدب " الفرس.

من هنا يتبين لنا أن طلاب الثقافة اليونانية وقعوا في دائرتين مغلقتين، فهم إما عرفوا منزلة اليونان في الشعر، وبعض النماذج الشعرية، عن طريق كتابي الشعر والخطابة لارسطاطاليس وما حولهما من شروح كشرح ثامسطيوس، وإما عرفوا أقوالا شعرية؟ غير دقيقة النسبة - لا تفترق في كثير عن الحكم. ولا نعرف أحدا استطاع أن يخرق هاتين الدائرتين سوى أبي الريحاني البيروني (بعد ٤٤٢/١٠٥٠) وسبب ذلك أن أبا الريحان لم يقع كما وقع الفارابي وابن سينا وابن رشد ضحية لنماذج أدبية لا يعرفها، كما يقع من يقرأ " كتاب الشعر " دون أن يعرف حقيقة المأساة والملهاة مثلا، وإنما كانت


(١) سيجيء الحديث عن هذا الأدب في موضعه من هذه الدراسة، انظر الفصل التاسع.
(٢) انظر منتخب صوان الحكمة، الورقة: ٧١ وما بعدها، وصوان الحكمة: (طهران) ١٩٣ - ١٩٤.
(٣) الكلم الروحانية:١٣٥.
(٤) انظر ترجمة أوميرس في الملل والنحل ٢: ١٦٤ - ١٦٧.

<<  <   >  >>