قياساً آخر وهكذا؛ وكنت أعيد كل درس ألف مرة فإذا كان في المسألة بيت يستشهد به حفظت القصيدة " وما ذلك إلا طلباً للتثبيت واليقين؛ وكان قد مر عليه ببغداد حوالي خمسة عشر عاماً حين سأله أستاذه أبو الطيب الطبري أن ينفرد في أحد المساجد، ففعل ذلك وأخذ يدرس في مسجد بباب المراتب. وما لبث أن اشتهر أمره وانتشر صيته في البلدان ووصل إليه الطلبة من كل مكان وأخذت الفتاوى تحمل إليه من جميع الجهات. وأصبح في حياة شيخه أبي الطيب من اكبر فقهاء الشافعية في عصره، شهرة بالفقه وأصوله ومسائل الخلاف وقوة العارضة في الجدل، وأصبح شيخه يعتمد عليه في شئون المناظرة ويقدمه لذلك.
وكانت العادة ببغداد إذا أصيب أحد بوفاة أن يجلس للعزاء في مسجد الحي ليتقبل التعزية ويمضي على ذلك أياماً لا يتخللها سوى قراءة القرآن أو المناظرة بين الشيوخ؛ فلما توفيت زوجة الشيخ أبي الطيب حضر للعزاء فيمن حضر القاضي أبو عبد الله الصيمري شيخ الحنفية فرغب الناس إليهما في المناظرة في مسألة فقهية فلما اعتذر الصيمري عن ذلك قال الناس: من كان له تلميذ مثل أبي عبد الله الدامغاني لا يحوج إلى الكلام وها هو حاضر من أراد أن يكلمه فليفعل. فقال القاضي أبو الطيب: وهذا أبو إسحاق من تلامذتي ينوب عني.
وفي سنة ٤٤٧ توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن جعفر بن ماكولا الشافعي، فاتجهت أنظار الخليفة وكان يومئذ هو القائم بأمر الله إلى أبي إسحاق الشيرازي، وأراده على أن بتولى قضاء القضاة فأبى فحاول إكراهه على ذلك فامتنع أيضاً، فوكل به من يلازمه حتى يحمله على القبول، فكتب إله أبو إسحاق: " ألم يكفك أن هلكت حتى تهلكني معك " فتأثر الخليفة لهذا وقال: " هكذا فليكن العلماء؛ إنما أردنا أن يقال انه كان في عصرنا من وكل به وأكره على القضاء فامتنع وقد أعفيناه "؛ ومثل هذه الحكاية روى عن غير أبي إسحاق مع غير القائم بأمر الله.