قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- في: " اقتضاء الصراط المستقيم: ٢ / ٣٧٦- ٠ ٣٨": "ولفظ الإسلام: يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن الإخلاص، من قوله تعالى-: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر / ٢٩] . فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: " لا إله إلا الله " فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته، وقد قال- تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر / ٦٠] . وثبت عنه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيح أنه قال: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان " فقيل له: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنا، أفمن الكبر ذاك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس» . بطر الحق: جحده ودفعه، وغمط الناس:
ازدراؤهم واحتقارهم.
فاليهود موصوفون بالكبر، والنصارى موصوفون بالشرك، قال تعالى في نعت اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة / ٨٧] .
وقال في نعت النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة ٣١] .
ولهذا قال الله- تعالى- في سياق خطاب النصارى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران / ٦٤] .
وقال- تعالى- في سياق تقريره للإِسلام، وخطابه لأهل الكتاب: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} إلى قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة / ١٣٦ - ١٤٠] . ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدًا، وإنما تنوعت الشرائع؛ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد» ، «الأنبياء إخوة لعلات» ، و «أنا أولى الناس بابن مريم، فإنه ليس بيني وبينه نبي» .
فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت.
وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع، كتنوع الشريعة الواحدة، فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيِت المقدس في الصلاة، كما أمر المسلمون بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة، فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته، فهكذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك وشرع الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبًا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة، وحرم الاجتماع يوم السبت.
فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ، لم يكن مسلما.
ومن لم يدخل في شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد النسخ لم يكن مسلمًا.
ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة، قال - تعالى-: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى / ١٣] .
فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه.
وقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: ٥١ - ٥٢] .
وقال- تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم / ٣٠ - ٣٢] .
فأهل الإشراك متفرقون، وأهل الإخلاص متفقون، وقد قال- تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود / ١١٨ - ١١٩] ، فأهل الرحمة متفقون مجتمعون، والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا.
وقال- رحمه الله- أيضًا في: "الفتاوى: ٣٥ / ٣٦٤": "فدين الأنبياء واحد، وهو دين الإسلام، كلهم مسلمون مؤمنون، كما قد بين الله في غير موضع من القرآن؛ لكن بعض الشرائع تتنوع، فقد يشرع في وقت أمرا لحكمة، ثم يشرع في وقت آخر أمرًا آخر لحكمة؛ كما شرع في أول الإسلام الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة إلى الكعبة، فتنوعت الشريعة والدين واحد، وكان استقبال الشام ذلك الوقت من دين الإسلام، وكذلك السبت لموسى من دين الإسلام، ثم لما نسخ صار دين الإسلام هو الناسخ، وهو الصلاة إلى الكعبة، فمن تمسك بالمنسوخ دون الناسخ فليس هو على دين الإسلام، ولا هو متبع لأحد من الأنبياء، ومن بدل شرع الأنبياء وابتدع شرعًا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه، كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى / ٢١] ، ولهذا كفر اليهود والنصارى، لأنهم تمسكوا بشرع مبدل منسوخ. والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله، ومحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الرسل؛ فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين وهو ما أتى به من الكتاب والسنة، فما
جاء به الكتاب والسنة وهو الشرع الذي يجب على جميع الخلق اتباعه؛ وليس لأحد الخروج عنه، وهو الشرع الذي يقاتل عليه المجاهدون، وهو الكتاب والسنة.
وسيوف المسلمين تنصر هذا الشرع، وهو الكتاب والسنة، كما قال جابر بن عبد الله: «أمرنا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نضرب بهذا- يعني السيف- من خرج عن هذا- يعني المصحف» قال - تعالى-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد / ٢٥] ، فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب، وأنزل العدل، وما به يعرف العدل؛ ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد. فمن خرج عن الكتاب والميزان قوتل بالحديد، فالكتاب والعدل متلازمان، والكتاب هو المبين للشرع؛ فالشرع هو العدل، والعدل هو الشرع، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع، ولكن كثيرًا من الناس ينسبون ما يقولونه إلى الشرع وليس من الشرع؛ بل يقولون ذلك إما جهلا وإما غلطًا، وإما عمدا وافتراء، وهذا هو الشرع المبدل الذي يستحق أصحابه العقوبة؛ ليس هو الشرع المنزل الذي جاء به جبريل من عند الله إلى خاتم المرسلين
، فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل، قال- تعالى-: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة / ٤٢] ، وقال تعالى-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة / ٤٩] ، فالذي أنزلَ اللهُ هو القسط، والقسط هو الذي أنزلَ اللهُ. وقال- تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء / ٥٨] ، وقال - تعالى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء / ١٠٥] ، فالذي أراه الله في كتابه هو العدل. . . " انتهى.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذه النقول من زوائد الطبعة الثانية