ثم إننا نقول: وكيف يسوغ أن يقال: إ ن الذبيح إسحاق؟ والله - تعالى - قد بشَّر أم إسحاق به وبابنه يعقوب، قال - تعالى -: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}(هود: ٧١)، فمحال أن يبشرها بأن يكون لها ولد، وللولد ولد، ثم يأمر بذبحه، هذا كلام عظيم من شيخنا الشيخ أبو شهبة، ولا ريب أن يعقوب -عليه السلام- داخل في البشارة، ويدل عليه أيضًا أن الله ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة " الصافات "، ثم قال بعد ذلك:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(فاطر: ١١٢)، وهذا ظاهر جدًّا في أن المُبَشَّر به غير الأول، بل هو كالنص في ذلك، وغير معقول في أفصح الكلام وأبلغه أن يبشر بإسحاق بعد قصة يكون فيها هو الذبيح؛ فتعيَّن أن يكون الذبيح غيره، وهذا لا يكون إلا إسماعيل -عليه السلام.
وأيضًا لا ريب أن الذبيح كان بمكة؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامته لذكر الله، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، ولو كان الذبح بالشام -كما يزعم أهل الكتاب- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة، وأيضًا فإن الله -سبحانه- سمى الذبيح "حليمًا"؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه "عليمًا": {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}(الذاريات: ٢٨)، وهذا إسحاق بلا ريب؛ لأنه من امرأته وهي المبشرة به، وأما إسماعيل فمن السرية، وأيضًا فلأنهما بُشِّرا به على الكبر واليأس من الولد، فكان ابتلاؤهما بذبحه أمرًا بعيدًا، وأما إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك .. إلى آخر ما قال، وكلمة إسماعيل من السرية؛ السرية: أي الجارية.