للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المعجزة التي لا تباريها الفصاحة الآدمية في القرآن العظيم، فعلمت صحة إعجازه.

ثم إني لما هذبت خاطري بالعلوم الرياضية، ولا سيما الهندسة وبراهينها، راجعت نفسي في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب، فعلمت أن العقل حاكم يجب تحكيمه على كليات أمور عالمنا هذا؛ إذ لولا أن العقل أرشدنا إلى اتباع الأنبياء والرسل، لما صدقناهم في سائر ما نقلنا عنهم. وعلمت أنه إذا كان أصل التمسك بالمذاهب الموروثة عن السلف، وأصل اتباع الأنبياء مما أدى إليه العقل، فإن تحكيم العقل على كليات جميع ذلك واجب١. وإذا نحن حكمنا العقل على ما نقلناه عن الآباء والأجداد علمنا أن النقل عن السلف ليس يوجب العقل قوله من غير امتحان لصحته، بل لمجرد كونه مأخوذًا عن السلف، لكن من أجل أن يكون أمرًا ذا حقيقة في ذاته، والحجة موجودة بصحته. فأما الأبوة السلفية وحدها فليست بحجة؛ إذ لو كانت حجة لكانت أيضا حجة لسائر الخصوم الكفار كالنصارى، فإنهم نقلوا عن أسلافهم أن عيسى ابن الله، وأنه الرازق المانع الضار. فإن كان تقليد الآباء والأسلاف يدل على صحة ما ينقل عنهم، فإن ذلك يلزم منه الإقرار بصحة مقالة المجوس٢، وإن كان هذا التقليد لأسلاف اليهود خاصة دون غيرهم من الأمم، فلا يقبل ذلك منهم، إلا أن يأتوا بدليل على أن


١ لا شك في أن ما ينزل به الوحي على الأنبياء يتفق مع العقل السليم والفطرة الصافية. والشارع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إنما يأتي بما تُحار فيه. لكن من يضمن لنا سلامة العقل وصفاء الفطرة وعدم تأثرهما بشيء؟ لذا كان الوحي هو الفيصل في ذلك، لكن بعد أن يصح النقل ويسلم.
٢ وهذا مطابق لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: ٢٣، ٢٤].

<<  <   >  >>