الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من غير أن يثبت عنه بالدليل ما قاله ولا أداه اجتهاده إلى أن أبا حنيفة أولى بالاتباع مما اتفق الجماعة عليه فإني أخاف على هذا من الله عز وجل بأنه اتبع في ذلك هواه وأنه ليس من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وكذلك إن كان القاضي مالكياً فأختصم إليه اثنان في سؤر الكلب فقضى بطهارته مع علمه بأن الفقهاء كلهم قضوا بنجاسته، وكذلك إن كان القاضي شافعياً فاختصم إليه اثنان في متروك التسمية عمداً فقال أحدهما هذا منعني من بيع شاة مذكاة فقال الآخر إنما منعته من بيع الميتة، فقضى عليه بمذهبه وهو يعلم أن الأئمة الثالثة على خلافه، وكذلك إن كان القاضي حنبلياً فاختصم إليه اثنان فقال أحدهما لي عليه مال فقال الآخر كان له علي مال فقضيته، فقضى عليه بالبراءة من إقراره مع علمه بأن الأئمة الثلاثة على خلافه، فإن هذا وأمثاله مما توخى اتباع الأكثرين فيه أقرب عندي إلى الإخلاص وأرجح في العمل.
"وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا صحيحة وإنهم قد سدوا ثغراً من ثغور الإسلام سده فرض كفاية ولو أهملت هذا القول ولم أذكره ومشيت على الطريق التي عليه الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتاب ان صنفه أو كلام إن قاله أنه لا يصح أن يكون قاضياً إلا من كان من أهل الاجتهاد، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام، فإن هذا كالإحالة والتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم، وأن لا ينفذ حق، ولا يكاتب به ولا يقام بينة، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية، وهذا غير صحيح بل الصحيح في المسألة أن ولاة الحكام جائزة وأن حكومتهم اليوم صحيحة نافذة وولايتهم جائزة شرعاً انتهى كلام ابن هبيرة رحمه الله١.
فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد جائزة إذا تعذرت تولية المجتهد لأنه ذكر أن شروط الاجتهاد ليست موجودة في الحكام وأن هذا كالإحالة وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم فينفذ قضاء المقلد للحاجة لئلا تتعطل الأحكام. وهكذا قال غير واحد من المتأخرين الذين يذكرون أن من شروط القاضي أن يكون مجتهداً يذكر هذا ثم يذكر القول الثاني أنه يجوز تولية المقلد للضرورة كما ذكره متأخرو الحنابلة والمالكية والشافعية
وتضمن أيضاً كلام ابن هبيرة أن إجماع الأئمة الأربعة حجة وأن الحق لا يخرج عن
١ في هذا الكلام نظر من وجوه ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن من أصول الشريعة اليسر ورفع الحرج ومن هدي النبي (ص) أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وهذا أفضل مرجح بين ما اختلف فيه الأربعة أو غيرهم "ومنها" الترجيح بقوة الدليل "ومنها" أن كتب هذه المذاهب وغيرها لا تغني عن الاجتهاد لأن الناس يحدث لهم أقضية بما أحدثوا من أمور الكسب والعمران والنظم المالية ومن الفجور أيضاً كما قال الإمام عمر بن عبد العزيز "رضي" ويناسب هذا ما قاله الفقهاء في تعليق بعض الأعمال بالعرف الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وكتبه محمد رشيد رضا.