وما دام الواقدي هو عمدة بودلي وغيره من مشايخه، فليعلم أن الواقدي (١) نفسه روى من حديث يونس بن ميسرة بن حُلَيس، ونصه قال:"لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود، حتى استمعا له، فوافقاه، وهو يقول: إن من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، قال كعب: صدق! فقال علي: ومن يُعطِ باليد القصيرة يُعط باليد الطويلة. فقال كعب: صدق! فقال الحبر: وكيف تصدقه؟ قال: أما قوله: من الناس من يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار"، فهو المؤمن بالكتاب الأول ولا يؤمن بالكتاب الآخر. وأما قوله:"منهم من لا يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار"، فهو الذي لا يؤمن بالكتاب الأول ولا الآخر، وأما قوله:"من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة"، فهو ما يقبل الله من الصدقات. قال: وهو مثل رايته بيِّن! قالوا: وجاء كعباً سائل فأعطاه حلته، ومضى الحبر مغضباً! ومثلت بين يدي كعب امرأة تقول: من يبادل راحلة براحلة؟ فقال كعب: وزيادة حلة؟ قالت: نعم! فأخذ كعب وأعطى، وركب الراحلة ولبس الحلة، وأسرع السير حتى لحق الحبر وهو يقول: من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطويلة.
تفيد هذه الرواية أن علياً كان يخطب في أهل اليمن ولا يعترضه أحد أو يرميه بحجارة، وأن في خطبته حكمة وفصاحة وحسن تمثيل. فلماذا أهمل بودلي هذه الرواية واعتمد على الأخرى بعد تحريفها؟! إنه الغرض أو الجهل أو متابعة أهل الأغراض والأهواء دون بصر، ودون الرجوع إلى مصادرهم. فكان الخلط والخبط والضلال.
(١) المغازي (٣/١٠٨٢ـ١٠٨٣) ، بإسناده إلى ابن الحليس.