عقلنا وبين تتبع الفكرة في حركتها المنطقية؛ ولهذه النزعة في الميدان السياسي يرجع سبب تحطيم وحدة المشكلات العضوية وتجزئة الحلول، حتى تصبح السياسة العاطفية، وهي التعبير عن التفكير (الذري) في الواقع المحس، تصبح تلك السياسة عاجزة عن صياغة حكم صحيح على ذلك الواقع، لأن الحكم يفترض قاعدة يجب الرجوع إليها، ومقياساً تقاس به الأمور! أي يفترض تركيب مجموعة أفكار وتنسيقها، أعني أن (الحكم) يفترض عمليات ذهنية لا تتفق مع التفكير الذري.
والشيء المؤسف في مثل هذه الحالة هو أن المرض له تأثير عكسي أو متبادل، فعندما تصبح السياسة عاجزة عن صياغة الحكم اللائق عن واقع البلاد، تصبح البلاد عاجزة عن صياغة الحكم الموفق في توجيه سياستها وفي تعديلها إذا انحرفت.
فلو أننا حللنا بعض الحالات السياسية التي نتجت في البلاد الإسلامية على أثر الحرب العالمية الثانية، فسنخرج حتماً بنتيجة هي أن الذين قادوا الشعوب إلى الكوارث الكبرى، لم يكونوا من المحترفين العاديين الذين يسيرون في ركب الاستعمار على مرأى العيون، بل هم على العكس من ذلك، رجال مكرمون، مرفوعون على منابر الزعامة وكراسي الحكم: رجال وضعوا في حرم أوطانهم مواضع (الأبطال) وبنيت لهم الأضرحة الفخمة أو هم بنوها من أموال أوطانهم قبل أن يبرحوا الحياة الدنيا.
ليس في إمكان أي مؤرخ اجتماعي أن يقدر تقديراً صائباً الكارثة التي حلت بالعالم الإسلامي، يوم تأسست دولة باكستان، ولكن نستطيع من الآن أن نقول إنها غيرت مجرى تاريخ الإسلام في آسيا لعدة قرون، وحينما نحلل هذه الكارثة بصفتها حادثاً سياسياً يتصل بطبيعة الحال بطريقة تفكير معينة، نرى أن فكرة (باكستان) هي أبرز صورة تظهر فيها النزعة (الذرية) بكل وضوح.