لقد رأينا كيف ظهرت الصحافة الشعبية في مصر أول ما ظهرت، مماثلة من حيث الشكل والموضوع للصحافة الرسمية المعاصرة لها، معينة بتافه الأخبار ناشرة لقديم الأدب المحفوظ في بطون الكتب، وكل ما كان يدور بين السلطات المصرية العليا وبين الدولة العلية أو دول أوربا كان باطنه أكثر من ظاهره، وكان ما يباح نشره من المسائل المهمة يستوجب رقابة الحكومة ويخضع لوحيها، ولم تكن حالة مصر الاجتماعية والسياسية حتى سنة ١٨٧٦ تسمح بأكثر من هذه الصحف وأهمها صحيفة الأهرام، فقد فقدت الصحافة الشعبية منذ إنشائها حتى تلك السنة أهم عناصر الشعبية فيها، وهي إبداء الملاحظة وإسداء النصح، والنقد والمعارضة إذا استوجبت الظروف ذلك.
لم يكن في الحياة المصرية رأي عام في تلك الفترة من حكم عاهلها إسماعيل، فقد عاشت مصر في عهد محمد علي كما تعيش القرية في كنف شيخ محنك ذكي أرسل البعوث إلى أوربا فعاد معظمها وتولى مصالح الدولة ودواوينها، وبدأت تتكون في مصر طبقة وسطى لم يظهر أثرها في عهده، وبدأت هذه الطبقة تتفوق في الصناعة والزراعة ومنازل الحرب وبيوت العلم في عهد سعيد وخلال حكم إسماعيل، وانتقلت مقاليد الأمور في عمومها من الأتراك إلى المصريين، وأيقظت هذه الطبقة البلاد يقظة سريعة موفقة، ولم يكن ينقصها إلا التنظيم وشيء من الشجاعة لتستقيم لها الأمور، غير أن الخديوي وإن كانت هذه الطبقة أهم أدوات حكمه أبى أن يرفع أحد عقيرته بنقد الحكومة أو معارضتها وإلا كان نصيبه العقاب الشديد.