للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

بمصلحته في الحالين.

وكذلك الطبيب الماهر قد ينهى العليل في وقت عن الأغذية المقوية للمادة، ويأمره باستعمال اللطيف الذي لا / (٢/٤٥/ب) يخصب البدن ويزيد في المادة، فإذا نَقِه١ عاد فأمره بما كان ينهاه عنه لمعرفته بما يصلحه في الحالين. وقد عَلِمَ أوّلاً أنه سينهاه عما أمره به ويأمره بتناول ما نهاه عنه أوّلاً، وإذا كان ذلك حسناً من الوالد في ولده والطبيب في سقيمه، فما المانع أن يتعبد الله عباده في وقت بحكم يعلم أن مصلحتهم في التكليف به، ويطلق لهم الأمر من غير تقييد بمدة ليكون أدعى٢ إلى المسارعة والامتثال، ثم يأمرهم في وقت آخر بترك تلك التكاليف واستعمال غيرها؛ لعلمه بكونها مصلحة لهم في ذلك الوقت، والشرائع مصالح للعباد. والله تعالى هو العالم بمصالح عباده على اختلاف أحوالهم وأوقاتهم! فما الذي جَوَّز ذلك للوالد والطبيب مع الجهل٣ بالعاقبة، وأحاله٤ من العَالِم بعواقب الأمور الذي لا يخفى عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء المدبِّر لعباده كما يشاء. {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ العَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: ٥٤] .

واعلم أن النسخ لا يدخل على الأخبار؛ لأن المخبر عنه يصير كذباً، وإنما يدخل / (٢/٤٦/أ) على الأحكام؛ لاختلاف المصالح باختلاف أحوال المكلّفين واختلاف الأوقات. فهذا بيان جواز النسخ عقلاً٥.


١ نقه من مرضه نقهاً ونقوها: أي: صحّ وبرئ وفيه ضعف. (ر: القاموس ص١٦١٩) .
٢ في م: إذعان.
٣ في م: الجهد.
٤ في م: وإحالته.
٥ النسخ في اللغة: قد يطلق بمعنى الإزالة. ومنه يقال: نسخت الشمس الظلّ أي: أزالته. وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه. كنسخ الكتاب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . [سورة الجاثية، الآية: ٢٩] .
وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.
ودليل إثباته عقلاً، هو: أن التكليف لا يخلو أن يكون موقوفاً على مشيئة المُكَلِّق أو على مصحلة المُكَلّف. فإن كان الأوّل فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة في زمان دون زمان. ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم، وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان.
وأما عن الشبهة العقلية التي احتج بها المنكرون للنسخ، فنقول: بأننا لا نسلم بما قالوه إن النسخ يستلزم البداء على الله تعالى أو العبث، بل إن النسخ يكون لحكة معلومة لله تعالى الذي أحاط بكلّ شيء ولم تخف عليه، غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وأسراره وحكمه سبحانه وتعالى لا تتناهى.
فإذا نسخ الله تعالى حكماً بحكم لم يخل الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأوّل، وما يظهر في النسخ من جديد فإنما يعتبر جديداً بالنسبة لنا. أما بالنسبة لله عزوجل فقد سبق علمه المحيط الشامل وعليه فلا يستلزم نسخ الله تعالى لأحكامه البداء والعبث، وإنما هو كما قيل: تغير في المعلوم لا في العلم. (للتوسع ر: الداعي إلى الإسلام ص ٣١٩، وما بعدها، تمهيد الأوائل ص ٢١٢-٢١٧، نواسخ القرآن ص ٨٠ لابن الجوزي، الإحكام ٢/٢٣٨-٢٤٠، للآمدي، إظهار الحقّ ص ٢٩٥-٢٩٦، لرحمة الله، فتح المنان في نسخ القرآن ص ٨٠-١٨٦، عليّ العريفي، النسخ بين الإثبات والنفي ص ٤٠/١٣٢ د. محمّد فرغلي) .

<<  <  ج: ص:  >  >>