تبارَكَ الَّذِى نزَّل الفُرْقَانَ على عَبْدِه لِيكونَ للعالمينَ نَذِيرا، والحمدُ لله الذى هدانَا بِه وأخْرجَنا من الظلُماتِ إلى النُّورِ، وصلَّى الله على نبينا محمّد الذى نَزَل القرآنُ العظيمُ بلسانِه لسانا عربيًّا مُبِيناً، لا يأتِيه الباطِلُ من بَيْن يَدَيه ولا من خَلْفه، اللهمَّ صَلِّ على محمّدٍ وعلى أبَويْه إبرهيِمَ وإسماعيلَ وسلِّم تسليما كثيراً. اللهمَّ اغْفِرْ لنا وارحَمنا وأنتَ خيرُ الراحمين.
وبعدُ فمنذ دهر بعيد، حين شققتُ طريقى إلى تذوُّق الكلام المكتوب، منظومه ومنثوره، كان من أوائل الكتب التى عكفتُ على تذوُّقها كتاب " دلائل الإعجاز"، للشيخ الإمام " أبى بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجانى "، الأديبِ النحوي، والفقيهِ الشافعى، والمُتكلِّمِ الأشعرىِّ [توفى سنة ٤٧١ هـ، أو سنة ٤٧٤ هـ]، ويومئذٍ تنبَّهتُ لأربعة أمور:
الأوّل: أنه بدَا لىَ أن عبد القاهر كان يريدُ أن يؤسس بكتابه هذا علما جديداً استدرَكَهُ على من سبقه من الأئمة الذين كتبُوا فى " البلاغة " وفى " إعجاز القرآن "، ولكن كان غريباً عندى أشدَّ الغرابة، أنه لم يَسِرْ في بناءِ كتابه سيرةَ من من يؤسس علماً جديداً، كالذى فعله سيبويه فى كتابه العظيم، أو ما فعله أبو الفتح ابن جِنى فى كتابه " الخصائص "، أو كالذى فعله عبد القاهر نفسُه فى كتابه " أسرار البلاغة "، بل كانَ عملُه وهو يؤسس هذا العلمَ الجديد، مَشُوباً بحميَّة جارفةٍ لا تعرف الأناةَ فى التبويب والتقسيم والتصنيف، وكأنه كانَ في عَجَلةٍ من أمره، وكأنّ منازعا كان يُنازعُهُ عند كُلّ فكرةٍ يريدُ أن يُجَلّيَها ببراعته وذكائه وسُرعة لَمْحه، وبقوّةِ حُجَّته ومضاءِ رأيه.