للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصل: عود إلى مسألة "اللفظ" و"المعنى" وما يعرض فيه من الفساد

٤٣٥ - واعلمْ أني على طول ما أعدتُ وأبدأتُ، وقلتُ وشرحتُ، في هذا الذي قامَ في أوهام الناس من حديثِ "اللفظِ"، لربما ظننتَ أني لم أصنع شيئًا، وذاك أنى ترى الناسَ كأنه قد قُضِيَ عليهم أنْ يكونوا في هذا الذي نحنُ بصَدَدِه، على التقليدِ البحْت، وعلى التوهُّم والتخيُّلِ، وإطلاقُ اللفظِ منْ غيرِ معرفةٍ بالمعنى، قد صارَ ذاكَ الدأبَ والدَّيْدَنَ، واستحْكَمَ الداءُ منهُ الاستحكامَ الشديدَ، وهذا الذي بيِّناه وأوْضحْناه، كأنك ترى أبداً حجازًا بينهم بين أن يعرفوه١، وكأنك تسمعهم من شيئاً تَلفِظُه أسماعُهم، وتُنكره نفوسُهم٢، وحتى كأَنه كلما كان الأمرُ أَبْينَ، كانوا عن العلم به، وفي توهُّم خلافهِ أَقعد، وذاك لأَنَّ الاعتقادَ الأوّلَ قد نَشِب في قلوبهم، وتأشَّب فيها، ودخَلَ بعروقهِ في نواحيها، وصارَ كالنبات السوءِ الذي كلَّما قلعْتَه عادَ فنبَتَ٣.

٤٣٦ - والذي له صاروا كذلك، أنهم حينَ رأوْهُمُ يُفْرِدون "اللفظَ" عن "المعنى"، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة، ورأوْهم قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا: "إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن معناهُ دونَ لفظِه"، ورأوهم يَصِفون "اللفظَ" بأوصافٍ لا يصفونَ بها "المعنى"، ظنوا أنَّ للفظ، مِنْ حيثُ هو لفظٌ حُسْناً ومزيَّةً ونُبْلاً.


١ في المطبوعة وحدها: "حجابًا بينهم"
٢ في المطبوعة وحدها: "وتنكره"
٣ ماذا كان يقول عبد القاهر لو أدرك زماننا هذا؟