أنْ يُفكَّر في الذي بيَّنَّاهُ من أنَّ "النظْمَ" هو توخِّي معاني النحوِ في معاني الكلم، وأنَّ توخِّيها في متونِ الألفاظِ مُحال. فلما جعلَ هذا في نفسِه، ونشِبَ هذا الاعتقادُ به، خَرَجَ له من ذلك أنَّ الحاكي إذا أدَّى ألفاظَ الشعرِ على النَّسق الذي سَمِعَها عليه، كان قد حكَى نظْمَ الشاعرِ كما حكَى لفظَه.
وهذه شُبْهةٌ قد مَلَكَتْ قلوبَ الناس، وعشَّشَتْ في صُدورِهم، وتَشَرَّبَتْها نفوسُهم، حتى إنكَ لَتَرى كثيراً منهم وهو من حلوها عندَهم محلِّ العلمِ الضروري، بحيثُ إنْ أومأتْ له إلى شيءٍ مما ذَكَرْناه أشمازَّ لك، وسَكَّ سَمْعَهُ دَونك، وأظهرَ التعجُّبَ منك. وتلك جريرةُ تَرْكِ النظرِ، وأخْذِ الشيءِ من غيرِ معدنه، ومن الله التوفيق.