للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا الأَخيرُ، فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاءَ قد رضُوْا مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم أنْ يحفَظوا كلاماً للأَوَّلينَ ويتدارَسُوه، ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً، مِنْ غَير أن يعرِفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيحٍ، ويكونَ عندهم، إن يسألوا عنه، بيانٌ له وتفسيرٌ١ إلاَّ "علمَ الفصاحةِ"، فإِنك تَرى طبقاتٍ منَ الناس يتداولونَ فيما بينهم أَلفاظاً للقدماء وعباراتِ، مِنْ غَير أنْ يعرِفوا لها معنًى أَصْلا، أَوْ يستطيعوا إن يسألوا عنها أن يذكروا لها تفسير يصح.

بيان معان في وصف "اللفظ"، كقولهم "لفظ متمكن غير قلق":

٥٤٠ - فمِنْ أقْرَبِ ذلك، أَنك تَراهم يقولون إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: "إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ"٢ وإِذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ: "إنَّ ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجوه دونَ وجهٍ"٣، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيء، ويقوون في المراد "بالطريقة" و "الوجه" ما يَحْلَى منه السامعُ بطائل. ويقرؤون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا "اللفظَ" فيها بأوصاف يعلم ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ، كقولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به، مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابعِ، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ" وكقولهم: "إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى، لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه" وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء: "كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه"، هذا إذا مدَحوه وقَولِهم إذا ذَمُّوه: "هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده قد استَهْلكَ المعنى" وأشباهٌ لهذا٤، ثم لا يخطر ببالهم أنه يجب أن


١ السباق: "لم نر العقلاء رضوا عن أنفسهم في شيء من العلوم .... إلا علم الفصاحة".
٢ هذا قول القاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني ١٦: ١٩٨.
٣ هذا أيضًا من كلام القاضي عبد الجبار.
٤ السياق: "ويقرؤون في كتب البلغاء ... ثم لا يخطر".