ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شُهِدَ عنده بجرح شخص، اجتهد في أن ذلك القدر مُؤَثِّر أم لا؟ وكذلك المحدِّث إذا أراد الاحتجاجَ بحديث شخص، ونُقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه: هل هو مؤثر أم لا؟ ويجري الكلام عنده فيما يكون جرحًا في تفسير الجرح وعدمه، وفي اشتراط العدد في ذلك كما يجري عند الفقيه.
ومن ثم جاءت ألفاظهم في الحكم على الراوي متفقة حينًا ومختلفةً حينًا آخر تبعًا لاختلاف اجتهاداتهم في الحكم على الراوي.
وقال الترمذي في كتابه "العلل" ١/ ٣٢١: وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال، كما اختلفوا في [ما] سوى ذلك من العلم، ذُكر عن شعبة أنه ضعف أبا الزبير المكي وعبد الملك بن أبي سليمان وحكيم بن جبير، وترك الرواية عنهم، ثم حدث شعبة عمن دون هؤلاء في الحفظ والعدالة، حدث عن جابر الجعفي، وإبراهيم بن مسلم الهجري، ومحمد بن عبيدالله العرزمي، وغيرِ واحد ممن يُضعفون في الحديث.
ثالثًا: رواية العدول الثقات هل تعد توثيقًا للمروي عنه؟
يرى بعضُ من ينتحِلُ صِناعَةَ الحديثِ أن رواية العدل الثقة عن غيره يُعَدُّ توثيقًا له، وحجته: أن العدلَ لو كان يَعْلَم فيه جرحًا لذكره.
قال الخطيب في "الكفاية" ص ٨٩: وهذا مذهب باطل، لأنه يجوز أن يكون العدلُ لا يَعْرِفُ عدالَتَه، فلا تكونُ روايتُه عنه تعديلًا، ولا خبرًا عن صِدقه، بل يَروي عنه لأغراضٍ يَقْصِدُها، كيف وقد وُجِدَ جماعةٌ من العدولِ الثقاتِ رَوَوْا عن قومٍ أحاديثَ أمسكوا في بعضها عن ذِكر أحوالهم مع عِلمهم بأنَّها غيرُ مرضية، وفي بعضها شَهِدوا عليهم بالكَذِبِ في الرواية، وبفسادِ الآراء والمذاهب.