للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بها سَمَتْ نفسُه إلى ما هو فوقها وتعلّقت أمنيته بما هو أعلى منها، فاستقل واسترذل حالتَه التي هو فيها التي قد كانت من قبلُ غايَته وأملَه، وصار بين هّم وخوفٍ: أمّا الخوف فمن النزول عن الدرجة التي نالها وحصّلها، وأمّا الهّم فبالتي يقدِّر بلوغها. فلا يزال متقنِّطاً لها متنغِّصا بها زارياً عليها، مُتعبَ الفكر والجسد في إعمال الحيلة للتنقُّل عنها والترقَّي منها إلى ما سواها، ثم تكون حالته في الثانية كذلك وفي الثالثة إن بلغها وفي كل ما نال ووصل إليه منها. وإذا كان الأمر كذلك فيحق على العاقل أن يحسد أحداً على فضل من دُنيا ناله ممّا يستغنى عنه في إقامة العيش، وأن لا يظن أنّ أصحاب الفضل فيها والإكثار منها لهم من فضل الراحة واللذّة بحسب ما عندهم من فضل عُروض الدنيا. وذلك أنّ هؤلاء لِمطاولة هذه الحال ودوامها

يصيرون - بعد الراحة واللذة ودوامها - إلى أن لا يلتذّوها، لأنها تصير عندهم بمنزلة الشيء الطبيعي الاضطراري في بقاء العيش، فيقرب من أجل ذلك التذاذُهم بها من التذاذ كل ذي حالة بحالته المعتادة. وكذلك تكون قضيّتهم في قلّة الراحة، وذلك أنه من أجل أنهم لا يزالون مُجدِّين منكمشين في الترقِّي والعلو إلى ما فوقهم تَقِلُّ راحتهم، حتى إنها ربما كانت أقلَّ من راحة مَن هو دونهم، ولا ربما بل هي في أكثر الأمور دائماً أبداً كذلك. فإذا لاحظ العاقل هذه المعاني وتأملها آخذاً فيها بعقله طارحاً لهواه عَلِمَ أنّ الغاية التي يمكن بلوغها من لذاذة العيش وراحته هي الكفاف، وأن ما فوقه من أحوال المعاش مقارب في ذلك بعضه لبعض، بل الكفاف دائماً فضلُ الراحة عليها. فأيُّ وجهٍ للتحاسد إلا الجهل بها وأتباع الهوى دون العقل فيها. وفيما ذكرنا من هذا الباب أيضاً كفاية، فلنقل الآن في الغضبرون - بعد الراحة واللذة ودوامها - إلى أن لا يلتذّوها، لأنها تصير عندهم بمنزلة الشيء الطبيعي الاضطراري في بقاء العيش، فيقرب من أجل ذلك التذاذُهم بها من التذاذ كل ذي حالة بحالته المعتادة. وكذلك تكون قضيّتهم في قلّة الراحة، وذلك أنه من أجل أنهم لا يزالون مُجدِّين منكمشين في الترقِّي والعلو إلى ما فوقهم تَقِلُّ راحتهم، حتى إنها ربما كانت أقلَّ من راحة مَن هو دونهم، ولا ربما بل هي في أكثر الأمور دائماً أبداً كذلك. فإذا لاحظ العاقل هذه المعاني وتأملها آخذاً فيها بعقله طارحاً لهواه عَلِمَ أنّ الغاية التي يمكن بلوغها من لذاذة العيش وراحته

<<  <   >  >>