فَلَمَّا نَكَلَ يَزِيدُ عَنِ الْيَمِينِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، حَكَمَ أَبُو كُرَيْبٍ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ، فَنَهَضَ يَزِيدُ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ أَمُتْ، حَتَّى جَعَلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مَنْ يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ بِالْحَقِّ.
فَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: وَأَنَا أَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ أَمُتْ، حَتَّى رَأَيْتُ أَمِيرًا يَشْكُرُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ بُهْلُولٍ، أَنَا أَبَا كُرَيْبٍ كَانَ، إِذْ كَانَ قَاضِيًا بِالْقَيْرَوَانِ، سَاكِنًا فِي الدَّرْبِ الْمَعْرُوفِ بِالسِّنْجَارَيِّ، فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، سَاقَ حِمَارَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْجَامِعِ رَكِبَ حِمَارَهُ مُنْصَرِفًا عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا أُبْصِرَ فِي سَيْرِهِ إِلَى الْجَامِعِ وَهُوَ يَخُوضُ الطِّينَ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ رَكِبْتَ، فَيَقُولُ: لا، هَكَذَا حَالُ مَنْ يَسِيرُ إِلَى رَبِّهِ؛ يَسِيرُ ذَلِيلا مُتَوَاضِعًا.
وَرُبَّمَا أُبْصِرَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَقْعُدُ وَحْدَكَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ ذَهَبُوا، فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ أَنَّكَ انْصَرَفْتَ؟ فَيَقُولُ: وَمَنْ لِي بِالْمَلْهُوفِ إِذَا قَصَدَ إِلَيَّ فَلَمْ يَجِدْنِي؟ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ بُهْلُولٍ: وَكَانَ رُبَّمَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحُكْمُ فِي اللَّيْلِ فَيَأْتِي دَارَ مَنْ ثَبُتَ لَهُ حَقُّهُ عِنْدَهُ لَيْلا، فَيَقْرَعُ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَيَسْتَخْرِجُهُ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْضِرَ لَهُ صَالِحَ جِيرَانِهِ لِيُشْهِدَهُمْ لَهُ، فَيَقُولُ لَهُ: لَوْ تَرَكْتَ هَذَا إِلَى غَدٍ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو كُرَيْبٍ: فَإِنْ مِتُّ أَنَا فِي لَيْلَتِي هَذِهِ أَمَا أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَتْلَفَ عَلَيْكَ حَقَّكَ؟ وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْمَشَائِخِ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ الْقَاضِيَ، إِنَّمَا كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْبَرْبَرَ ضَرَبُوا عَلَى سَرْحِ الْقَيْرَوَانِ يَوْمَئِذٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ فَخَرَجَ فِيهِمُ الْقَاضِي ابْنُ كُرَيْبٍ لِقُوَّتِهِمْ، فَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الَّذِي يُقَالُ لَهُ: وَادِي أَبِي كُرَيْبٍ، فَبِهِ سُمِّيَ: وَادِي أَبِي كُرَيْبٍ، فَمَرَّ وَالِدُ أَبِي مُحْرِزٍ الْقَاضِي بِابْنِ كُرَيْبٍ، فَوَجَدَهُ مَقْتُولا فَغَطَّاهُ بِرِدَاءٍ لِئَلا يَرَاهُ النَّاسُ فَيَقْتَتِلُوا، ثُمَّ حُمِلَ لَمَّا رَجَعَ النَّاسُ فَدُفِنَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو الْعَرَبِ: وَقَدْ طَلَبْتُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ أَكْتُبُهُ عَنْهُ فَمَا وَجَدْتُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute