فلمَّا رأيتُه كلَّ يوم إلى نُقْصان، ومَصونه يزداد مهانَةً مع الأحيان، بادرْتُ لِلتَّأليف، وجمعْتُ في هذا
التَّصْنِيف من لُبابِه الباهِرِ، وزَهْره العاطِرِ، لمُعَاً كَسَقْطِ الزًّنْد عند الاقْتِداح، أو المُرْهفات في ليل النَّقْع
يوم الكفاح. وانتقيتُ من توليدِهِ المُخترِع، ونادِرِه المستبْدِع، لُمَحاً يُخَالُ بدرُ التَّمِّ في لبَّاتها، ويتَنشّق
العنبر الهندي من هَبَّاتها. وشَّحْتُها توشيح الهَدِيِّ، وثقََّفْتُها تثقيفَ اَلقِسِيِّ، وألَّفتُ فيه من النثر البديع،
والنَّظم المطبوع والحكايات المسْتطرفَة، والأخبار المسْتظرفَة، والنوادر المستحسَنَة المسَاق، والأشعار
المهذَّبة الرقاق، ما يلتذ سُمَاعُهُ على التحقيق والاتفاق، وتجنح إليه القلوبُ والأذهانُ، جُنوحَ الطير إلى
الأوكان، لمن نشأ في جزيرة الأندلس من الكتاب والأدباء، ولمن ورد عليها من جَِّلة الفُصحاء والبُلغاء
المُتَحلِّين بحلية الأدب، المقيمين أَوَد لسان العرب، ممن طاف على رؤسائها في المائة الخامسة، ومن
كان عَلمَاً بها في المائة السادسة.
وأكثر ما عولت على المتأخرين من الأدباء والماهرين، تنبيهاً على محاسنهم وآثارهم، وترغيباً في
رسائلهم وأشعارهم. وأضربت عن ذكر المتقدمين، لتكرُّر أخبارهم على المتأدِّبين. وربما ألممت
بعض إلمامٍ بكلامِ مَنْ في عصرنا من مشاهير وأعلام.
ولئن كانت سوقُ الأدب كاسدة، وجَمْرَتُهُ هَامِدة، فلا بد في كل حين من بنين، يُحْلُونَ عاطله، ويُجلون
فضائله. ولكل مجالٍ من رجالٍ يُعْنَون بالأنباء، ويقومون بالأعباء.
وعمدتُ إلى كتاب "الذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة" تأليف أبي الحسن علي بن بسام أحد صيارفة
النُّثَّارِ والنُّظَّام، فألَّفتُ من جواهره المفترقة،