[فصل ومن أحسن ما كتبوا في استفتاح الصداقة]
قديماً تواصل الناسُ على البُعْدِ، وتهَادَوا ثَمْر الإخلاص عن الود، وإنْ لَمْ يَتَقَدَّم سببٌ موجِبٌ
للتواصل، ولمْ يَرِدْ رائدٌ مُقْتَضٍ للتَّراسُلِ، وما أَقُول إنَّ مُخالطةً تمَكَّنتْ لا سببَ لها، ومباسطة تهدَّتْ لا
باعِثَ عليها. فإنَّ جُنُوحَ النفس لاسْتِصْفاءِ الفُضَلاء، واقتناء موداتِ الأولياء، أقوى أسبابِ الارتباطِ،
وأَرْعى أبوابِ الاخْتِلاط. ومحالٌ أنْ تَنْجَذِبَ نفسٌ، إلى منْ ليسَ لها به أُنْس، أوْ يَكْلَفَ ضميرٌ بمن
ليس له به حظٌّ موفور. وقد تَحَلَّتْ مُخَاطَبَتِي إيَّاكَ، بحَلْي المحبة فيك، والمعرفة بجميل مذَاهِبِكَ
ومَسَاعيكَ، والرَّغْبَةِ في اقْتِناء خُلَّتِكَ، وادخار صداقتكَ، لما اشتهرمنْ أحوالكَ الجميلة، وظهر منْ
خلالكَ النَّبيلة، ومن كان على ما أنْتَ عليه، فَمَرْغُوبٌ فيه، مُنْجَذبٌ إليه، مَطْلُوبٌ إخاؤه، مَخْطُوبٌ
صفاؤُهُ، مَحْبُوبٌ على البِعادِ، مُفْدى حتى منَ الأَضْدادِ.
وفي المعنى:
إِنْ كانت المعرفةُ لمْ تَحِقَّ، (فكم أثر أهدى منْ عيْنِ)، (وكمْ خَبَرٍ أَغْنى عنْ خُبْر). وإنْ كانت الأُلْفةُ لمْ
تتفِقْ. فَرُبَّ طارِفٍ حديثٍ، أكْرَمُ منْ تالِدٍ مَوْروثٍ. ومنابِتُ الفضْلِ باسِقَةُ الفُروعِ، حميدَةُ الجميعِ،
طيِّبَةُ الجنَى، جميلة المَخْبَرِ والمرأى، لا تروقُ إلاَّ بما يَرِفُّ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ بما يشِفُّ. وأنْتَ أعزَّكَ
الله، في أطْيَبِهَا مَعْدِناً، وأكْرَمِها مَوْطِناً، ومنْ أزْكاها مغرساً، وأسْراها منْبِتاً، ولا يَرِدُ منكَ إلاَّ ما يعْبَقُ
نسيمه، ويلَذُّ شميمهُ، ويروقُ منْظره، ويفوقُ مخْبَرُه، وما زِلْتُ